برزت أخيرا ظاهرة بيع وشراء المقتنيات الرقمية الفريدة بأسعار باهظة، ما جعل كثيرا من الناس يتساءل عن حقيقتها، وهل هي نتاج تطور علمي له أصول وفوائد ملموسة أم مجرد صرعة عابرة انطلقت من بنات أفكار أولئك المهووسين بالتقنية وما ينتج عنها من تطورات غريبة أحيانا؟
هذه الصرعة الجديدة تسمى non-fungible token أو NFT ويمكن ترجمتها - بتصرف مني - إلى سجل ملكية الأشياء الفريدة، وهي أشياء غالبا رقمية، لكن يمكن أن تكون مادية حقيقية. ما فكرتها بالضبط؟ وكيف يمكن الاستفادة منها من قبل من يمتلك مقتنيات رقمية ذات قيم تراثية أو تاريخية أو علمية؟ ومن يشتري هذه الأشياء، ولماذا يشترونها؟ وكيف تحفظ حقوق الملكية ويمنع التزوير والعبث بها؟
فكرة منح المنتجات الرقمية ملكية غير قابلة للنزاع دون الاعتماد على جهة مركزية، سواء حكومية أو غير حكومية، بدأت تأخذ طابعا جديا وعمليا منذ بداية انطلاق العملات المشفرة، التي أولها كانت عملة بيتكوين عام 2009. العملات المشفرة أصبحت حقيقة ملموسة بسبب تقنية سلسلة الكتل block chain، التي أزالت المركزية عن إصدار العملات النقدية باستخدام مفهوم جديد يسمى الاتفاق غير المركزي. هذا المفهوم يعني أن بالإمكان الاتفاق على حقيقة أمر ما، مثلا أن هذا الشخص يملك عددا من قطع "بيتكوين"، أو أن هذا الشخص قام بإرسال عشر قطع من عملة "إيثر" إلى شخص آخر، أو أن هذا الشخص يملك الأصل الرقمي الفلاني. هذه النقطة الأخيرة هي التي أطلقت ظاهرة سجل ملكية الأشياء الفريدة NFT.
لنفهم الأشياء الفريدة، علينا أن نفهم المقصود بالأشياء غير الفريدة، أي الأشياء المتجانسة أو المتطابقة. يستخدم في الأسواق المالية مصطلح fungible، أو متطابق، ويقصد به أن جميع وحدات الشيء متطابقة، تماما مثل أن ورقة ريال في جيبك مطابقة تماما لورقة ريال في جيبي، ولا يوجد فرق ولا مانع من استبدال واحدة بأخرى. هذا المفهوم مهم جدا لعمل البورصات السلعية والمالية، لأنه عندما تكون الوحدات المتداولة متطابقة تسهل عملية تسعيرها والتعامل بها، فمثلا شركة سابك لديها ثلاثة مليارات سهم، وكل سهم مطابق للآخر بشكل كامل، ما يجعل سعر أي سهم من أسهم الشركة مطابقا لسعر أي سهم آخر من أسهم الشركة. لذا، نقول: إنه في الأسهم، وكذلك في العملات المشفرة ذاتها، يوجد تطابق كامل، لذا فالأسهم والعملات مشفرة fungible.
قارن ذلك ببقية الأسواق، مثلا القطع العقارية المعروضة للبيع ليست متطابقة، حتى لو كانت في المخطط العقاري نفسه، ولا السيارات المستعملة متطابقة، ولا المنتجات الزراعية متجانسة، بينما هناك تطابق بدرجات متفاوتة في سلع وأشياء أخرى، مثلا السيارات الجديدة من الطراز واللون والنوع نفسه، تكون متطابقة إلى حد كبير. لذا، فعملية تسعير الأشياء الفريدة تكون أصعب من المنتجات المتطابقة، وهذا ما يجعل بورصات السلع تضع مواصفات دقيقة لتتمكن من تداول المنتجات غير المتطابقة.
أول من تناول فكرة عدم التطابق هذه وأدخلها في سلسلة الكتل هي عملة "إيثيريوم" المنافسة لعملة بيتكوين، وذلك من خلال ابتكار آلية متطورة لما يعرف بالعقود الذكية، حيث تمت إضافة بيانات ونصوص برمجية للعمليات التي تتم على سلسلة الكتل من أجل تعظيم الاستفادة من البنية التحتية لسلسلة الكتل. أي أنه بدلا من مجرد استخدام سلسلة الكتل في مجال العملات الرقمية، التي تتميز بالتطابق الكامل fungible، يمكن إضافة معلومات أخرى للتمكن من استخدام تقنية سلسلة الكتل في مجالات متعددة ومتنوعة، وذلك بالاعتماد على فكرة وجود سجل عام مكشوف أمام الملأ، يتمتع بقدرته على تحديد ملكية الأشياء بشكل قاطع، ورصد حركة التعاملات التي تتم من خلاله، مع وجود مناعة لديه قوية ضد التعديل والتزوير والتلاعب.
المقتنيات الرقمية التي بدأت الآن بالانضمام لقاطرة سلسلة الكتل أغلبها أعمال فنية رقمية، حيث كان الخبر الكبير الأسبوع قبل الماضي عن بيع عمل فني رقمي للفنان "بيبل" بمبلغ 70 مليون دولار من خلال مزاد كريستي الشهير. وقبل ذلك كانت هناك مقتنيات أخرى تم بيعها بعدة ملايين من الدولارات، شملت منتجات رقمية متعلقة بالألعاب الإلكترونية، وحقوق ملكية لأغان وشعارات متنوعة، وفي الأسبوع الماضي قام مؤسس منصة تويتر بطرح حقوق ملكية أول تغريدة كتبها وقت إطلاق المنصة عام 2006، وتم بيعها بمبلغ 2.5 مليون دولار.
بدأت بعد ذلك تتوالى الأفكار، حيث أعلنت مجلة "تايم" الأمريكية عرضها بيع بعض أغلفة المجلة الشهيرة في مزاد إلكتروني، وبالفعل تم البيع الأربعاء الماضي بسعر 132 ألف دولار للغلاف المعنون بسؤال عما إذا كانت العملات الورقية قد ماتت. وبحسب علمي، لم يتم حتى الآن استخدام هذه الآلية في المملكة من قبل أي فرد أو جهة، وأعتقد بأن هناك مجالا كبيرا للاستفادة منها في بيع المقتنيات الفريدة ذات الطابع المحلي، من أعمال فنية وغيرها، وربما يجد هواة جمع الطوابع ضالتهم بها، إن كان هناك من لا يزال يمارس هذه الهواية الكلاسيكية.
ما سبب البروز المفاجئ لملكية الأشياء الفريدة، وهي موجودة كتقنية منذ عدة أعوام؟ لا نعلم، لكن برأيي الشخصي أن السبب ربما يكون قد تم بفعل فاعل أراد لهذه الآلية أن تنتشر وتشتهر وتجد قبولا لدى عامة الناس، وذلك أولا نتيجة المنافسة الشديدة بين حزبين كبيرين يعملان في هذا المجال، وهما أتباع "بيتكوين" وأتباع "إيثيريوم"، وثانيا للحاجة الماسة إلى إيجاد أسواق جديدة يمكن من خلالها الاستفادة من العملات الرقمية التي في حوزة المالكين.
بمعنى آخر، ربما كانت هناك حاجة لتحريك استخدام العقود الذكية وملكية الأشياء الفريدة بشكل أقوى، وذلك من خلال إبراز حالات معدودة كقصص نجاح لهذه التقنية لإثبات جدواها، وبالتالي إحداث تحركات تسويقية وتجارية نشطة لإيجاد سوق كبيرة للعملات الرقمية، حيث يتم الاحتفاظ بالعملات الرقمية بدلا من تحويلها إلى عملات تقليدية.
وبغض النظر عن صحة مصدر الاهتمام المفاجئ لهذه الآلية، فإن سجل ملكية الأشياء الفريدة مفيد جدا في مجالات عديدة، أهمها حاليا مجال الأعمال الفنية، وبالذات الرقمية منها، حيث أصبحت هذه الآلية مصدر دخل وتشجيع للفنانين وأصحاب المقتنيات الرقمية المهمة.
نقلا عن الاقتصادية