بدأ العالم سباق التعافي الاقتصادي من الجائحة، واستمر كثير من الدول في تقديم حزم الدعم لاقتصاداتها الوطنية. كانت الولايات المتحدة آخر هذه الدول بحزمة تحفيز بلغت 1.9 تريليون دولار. كما بدأت الدول تسريع إجراءات تحصين مواطنيها بمختلف اللقاحات المضادة للفيروس لاستعادة وتيرة دوران الاقتصاد في أسرع وقت ممكن. وفي هذا السباق الذي تشترك فيه دول العالم جمعاء، تقف أوروبا حائرة في موقف لا يتناسب مع أنها إحدى القوى الاقتصادية في العالم.
في بداية الجائحة، قدمت دول الاتحاد الأوروبي حزماً اقتصادية ساهمت في صمود شركاتها؛ بل وتفوقت في مقدار هذه الحزم على دول مثل الولايات المتحدة واليابان، إلا إنها ومنذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي لم تقدم الدعم الذي يمكّن اقتصادها من عدم الانزلاق في دوامة الكساد. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تقديم معونات اقتصادية تقدر بما بين اثنين وثلاثة في المائة من ناتجها القومي لسد الفجوة الاقتصادية الحالية، بينما لا يقدم الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي إلا أقل من واحد في المائة من ناتجه القومي، وحتى هذه النسبة الضئيلة لا تزال قيد النقاش. ويتوقع الصندوق أن تخسر أوروبا نحو 15 مليون وظيفة في حال لم تحفز اقتصادها بأسرع وقت ممكن. وبدأت معدلات البطالة في ازدياد في دول أوروبا، فوصل عدد العاطلين في إسبانيا إلى أكثر من 4 ملايين عاطل؛ وهو أعلى معدل منذ أكثر من 5 سنوات، ووصل عدد العاطلين في ألمانيا إلى 2.9 مليون عاطل.
وأوروبا اليوم في منزلق خطر، فقد انكمش اقتصادها في آخر ربعين، وهو ما يدخلها رسمياً في مرحلة كساد، وانخفض اقتصادها العام الماضي 6.6 في المائة. بالمقارنة؛ فقد انكمش الاقتصاد الأميركي 3.5 في المائة رغم كل الأزمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة. وبينما توقعت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» أن يرتفع الاقتصاد الأميركي 6.5 في المائة هذا العام، لم يزد النمو المتوقع للاتحاد الأوروبي على 3.9 في المائة، وحتى هذه النسبة لا تبدو قريبة للواقع إذا لم تتحرك أوروبا لدعم اقتصادها.
وتتنافس دول العالم في سرعة تحصين مواطنيها، فبلغت نسبة التحصين في بريطانيا للمواطنين البالغين 40 في المائة، وفي الولايات المتحدة 33 في المائة، وقد وضعت الولايات المتحدة بداية مايو (أيار) هدفاً لتحصين جميع مواطنيها البالغين، وذلك لتعود الحياة لطبيعتها بحلول عيد الاستقلال في بداية شهر يوليو (تموز) المقبل. في المقابل؛ فإن هدف أوروبا أن يتم تحصين مواطنيها بنهاية شهر سبتمبر (أيلول) المقبل؛ أي بعد الولايات المتحدة بأكثر من 4 أشهر. هذا الهدف ليس في مصلحة أوروبا، لا سيما مع اعتمادها المباشر على السياحة خلال أشهر الصيف. وإن استمر هذا الهدف، فسيكون صيفاً خاوياً من السيّاح، كما كانت الحال العام الماضي، إلا إن حزم الدعم في العام الماضي كانت سنداً للشركات، ولا يبدو أن هذا السند سيستمر هذا العام.
ولم تكن أوروبا في موضع قوة حتى قبل الجائحة، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أثر عليها بشكل سلبي، كما أن بروز الصين قوةً اقتصاديةً يهددها بشكل مباشر، وحتى حليفتها أميركا لم تكن في صفها مع الحرب الاقتصادية إبان حقبة ترمب. ودول الاتحاد الأوروبي لم تنافس بشكل حقيقي في موجة الابتكار العالمية والتي أخرجت شركات تقنية عملاقة تساوي قيمتها دولاً بأكملها. كما أن مستقبلها التقني لا يبدو كما الحال مع الولايات المتحدة والصين اللتين تعملان بشكل جدي للاستثمار في التقنيات المستقبلية بدعم كبير لهذه التقنيات.
أوروبا اليوم قارّة عجوز، ليس لأنها قارة قديمة فحسب؛ بل لأنها قارة منهكة ولا تبدو قادرة على النهوض بنفسها اقتصادياً. وقطاع الخدمات فيها - وهو من أقوى قطاعاتها - لا يُدعم اقتصادياً بما فيه الكفاية للاستمرار والمنافسة، وقد تتمكن شركات غير أوروبية من الاستيلاء على هذه السوق إن لم تدعم الشركات الأوروبية. وبينما يتوقع للولايات المتحدة العودة لما قبل «كورونا» في أقل من سنتين، لا يبدو أن أوروبا ستتمكن من العودة إلى الحالة نفسها ما قبل «كورونا» قبل سنوات من الآن؛ قد تصل إلى أكثر من 5 سنوات، وحينها ستكون القارة العجوز متأخرة في السباق الاقتصادي.
نقلا عن الشرق الأوسط