لم يعد محتملا على الإطلاق بالنسبة للاقتصاد الوطني والمجتمع، أن يبقى أحد أكبر - إن لم يكن الأكبر - ألد أعداء التنمية لدينا على قيد الحياة، المتمثل في التستر التجاري، ويكفي القول ليعرف الجميع عن أي عدو لدود يجري الحديث عن ضرورة محاربته بكل الأدوات، إنه في منظور العقدين الماضيين استلب من مقدرات البلاد والعباد ما لا يقل عن 6.0 تريليون ريال (بمتوسط سنوي 300 مليار ريال)، وفق أكثر التقديرات الاقتصادية تحفظا، وقد تزيد التكلفة الباهظة اقتصاديا وماليا وتنمويا على تلك الأرقام، وتكفي تلك التقديرات المتحفظة للتعرف على أي عدو لدود تمكن من التغلغل في جسد الاقتصاد الوطني، وعلى ما خلفه من آثار سلبية على مختلف المستويات.
لقد ثبت كيف تسببت آفة التستر التجاري عبر أعوام طويلة مضت، تحول خلالها تحت إهمال وقصور مراقبته ومحاربته، من مجرد ممارسات مخالفة هامشية وصغيرة، إلى أن تحول إلى ما يشبه السرطان المتغلغل في كثير من نشاطات الاقتصاد الوطني، يمتص أغلب خيرات البلاد والعباد، وإن ظن البعض أن آثارها قد تقف عند مجرد رصد تحويلات العمالة الوافدة إلى خارج الحدود، التي وصل مجموعها خلال 20 عاما مضت (2000 - 2020) إلى أعلى من 2.1 تريليون ريال (8.8 في المائة من حجم الناتج المحلي غير النفطي)، فإن الأمر بالنسبة للتستر التجاري يتجاوز كل تلك المستويات القياسية من منافذ التسرب الاقتصادي، وما تشير إليه التقديرات المتحفظة عن حجم ما يتم تحويله للخارج من المكاسب غير المشروعة للتستر التجاري، وهو ما سبق الحديث عنه كثيرا طوال العقدين الماضيين، وتم إثباته بأن تقديرات تحويلاتها تتجاوز كثيرا مستويات الحوالات السنوية للعمالة الوافدة، نظير ما تتمتع به من سيطرة واسعة وكبيرة على كيانات تجارية وخدمية وصناعية عديدة، يذهب بها بعيدا إلى أكثر من ثلاثة أضعاف تلك المبالغ المحولة عبر بوابة تحويلات العمالة الوافدة.
إن هذا الحجم الهائل من الأموال المتسربة من الاقتصاد الوطني، لا يكشف فقط خسارة اقتصادنا الوطني ثروات طائلة فقط من خيراته ومكتسباته، بل يكشف أيضا عن أحجام هائلة أكبر من الفرص المحلية للاستثمار التي ابتلعها خطر التستر التجاري، وسلبها في الوقت ذاته من المنشآت الوطنية، وتسبب في تشويه البيئة المحلية للاستثمار ونشاطات القطاع الخاص، وحرم مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات منها، سواء من خلال حرمانهم من الاستثمار في تلك الفرص والمشاريع، والتوسع فيها وتحقيق القيمة المضافة المأمولة منها لمصلحة الاقتصاد الوطني، أو عبر بوابة حرمانهم من مئات الآلاف من الفرص الوظيفية المجدية بالنسبة لهم على كل المستويات.
إنها حيثيات كافية لأن تأتي الجهود والبرامج الوطنية الهادفة للقضاء على التستر التجاري أقوى وأكثر حزما وصرامة، وأن ما سينتج عنها بعد خلو بيئة الأعمال المحلية من هذه الآفة التنموية وغيرها من الآفات الأخرى، ستنعكس آثاره الإيجابية على مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، لعل من أهم ما سينتج عنها ولادة فرص استثمارية مجدية عديدة أمام المواطنين ورؤوس الأموال الوطنية، عدا مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة، وسيحفظ في الوقت ذاته الأموال والثروات من تهريبها إلى خارج الاقتصاد الوطني، وإبقائها في موطنها بما يعود بنفعها على البلاد والعباد، وهي الجزء المهم لا الكل من النتائج المستهدفة لمشروع البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، التي يسعى الجميع من أجهزة حكومية ومنشآت قطاع خاص وأفراد مجتمع للوصول إليها مهما كلف الثمن ومهما بلغ الجهد.
تمثل الفترة التصحيحية الأخيرة لتصحيح أوضاع مخالفي نظام التستر التجاري، الفرصة الأخيرة التي لن تتكرر أمام كل متورط ومخالف من مواطنين ومقيمين «تنتهي يوم 15 المحرم 1443هـ الموافق 23 آب (أغسطس) 2021»، والاستفادة من الخيارات الممنوحة مؤقتا لكل متقدم لأجل تصحيح أوضاعه المخالفة، والتحول من ممارسة النشاط الاقتصادي تحت مظلة مخالفات التستر، إلى ممارسة ذات النشاط تحت مظلة الأنظمة المعمول بها في الاقتصاد، وهو الوضع الذي سيتيح للأطراف كافة الاستفادة وجني المكاسب وفق القنوات الرسمية المشروعة.
وبنهاية تلك الفترة التصحيحية المحددة بتاريخها، سيتم إغلاق جميع الطرق والمنافذ أمام المتورطين في جريمة التستر التجاري، وإيقاع أقوى العقوبات والجزاءات عليهم، والدخول في سلة من الورطات الجنائية التي لا قبل لأي متورط بها مهما كانت جنسيته، ومهما كانت هويته، ومهما ادعى أو زعم جهله بالأنظمة والإجراءات الجديدة.
ختاما: لم يعد غائبا على أحد حجم الأضرار الجسيمة التي تسبب فيها استشراء هذا الداء، ولم تعد غائبة أيضا الفرص الاستثمارية الهائلة التي سيجنيها الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، بعد تنظيف وتنقية قطاعات ونشاطات الاقتصاد من التستر التجاري، وما سينتج عنه أيضا على مستوى فرص العمل الكريمة أمام الموارد البشرية المواطنة. ومن المفيد التأكيد على أهمية مراجعة العقوبات بالرفع والتشديد من فترة إلى أخرى، والتسريع بالإجراءات وصرف مكافآت المبلغين ورفعها إذا توافر ذلك، وهو ما يتوازى مع الجهود الكبيرة التي يتم بذلها والعمل على تنفيذها، التي قد يتجاهلها لأي سبب كان من لا يزال مصرا على ممارسة مخالفات التستر التجاري، وهو الأمر الذي يتفق عليه الجميع، أن من لا يزال متورطا في تلك المخالفات رغم كل الجهود والإجراءات التي تم اتخاذها حتى تاريخه، وفي الوقت الذي انتشر خلاله الوعي وتسليط الضوء على تلك الجرائم والمخالفات إلى أبعد الحدود الممكنة، لا يمكن القول: إن جرمه بعد كل هذا أنه يعادل جرم المتورط في التستر التجاري قبل عدة أعوام مضت، لم تكن خلاله الأنظمة والإجراءات ووسائل الرقابة والمتابعة والكشف عنه من ممارسات مخالفة، بالصورة التي هي عليه خلال الفترة الراهنة.
احسنت واحسن الله اليك يالسمي...
مقالة جميلة يا أستاذ عبد الحميد.