يمثل تصدي الأنظمة ولوائحها التنفيذية، لأي تشوهات في أي نشاط أو سوق تخضع لها، الجوهر الرئيس لتلك الأنظمة ولوائحها، الذي تستهدف من خلاله تعزيز حماية جميع المرتبطين بالنشاط أو السوق مـن الممارسات غير العادلة أو غير السليمة، التي تنطوي على احتيـال أو تدليـس أو تلاعب، كما تستهدف تعزيـز البيئـة التنظيميـة والاستقرار فـي ذلك النشاط أو السوق، واستمرار العمل على تطويـر كل الإجراءات الكفيلـة بالحد من أي مخاطـر مرتبطـة بالنشاط أو السوق، وبما يؤدي إلى تحقيـق الحمايـة الكافية للمتعاملين، وكل من له علاقة بذلك النشاط أو السوق التي تعنى به تلك الأنظمة ولوائحها التنفيذية، ولا يقف الأمر عند ما تقدم فحسب، بل تمتد روح النظام إلى الدفع بتطويـر كل مـا مـن شـأنه تعزيـز ثقـة جميع المتعاملين والمشـاركين بالنشاط أو السـوق، وفقا لأفضل الممارسات والمعايير الدولية في هذا الشأن، وبما يوفر الدعم اللازم لنمو وتوسع النشاط أو السوق.
وأمام ما لا تزال تعانيه السوق العقارية المحلية من عديد من التشوهات العميقة، يأتي في مقدمتها اتساع رقعة المضاربات المحمومة على الأراضي السكنية تحديدا، وما تتضمنه من ممارسات غير عادلة ومخالفة، تنطوي في الأغلب منها على أشكال عديدة من الاحتيال أو التدليس أو التلاعب، إضافة إلى ما يتبعها من ترويج ونشر واسع جدا للشائعات عبر مختلف وسائل الاتصال المعاصرة، تسعى إلى تحقيق كثير من الغايات المخالفة للمصلحة العامة للاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، بل إنها قد تتمادى إلى التسبب في إلحاق كثير من الأضرار الجسيمة بمقدرات البلاد والعباد، يأتي في مقدمة تلك الغايات المخالفة رفع الأسعار السوقية للأراضي وتضخيمها بصورة غير مبررة اقتصاديا وماليا، ثم فرضها كواقع مضلل على واقع تعاملات السوق بصورة أوسع نطاقا، بالاعتماد على ترويج ونشر الشائعات عبر مختلف وسائل الاتصال المعاصرة، واصطناع صورة مضللة منها على نطاق واسع جدا، بما يوفر لها إمكانية فرض منطقها غير المستند إلى حقائق فعلية على معطيات السوق العقارية، رغم أنها في الأصل تولدت نتيجة ممارسات غير عادلة، وفي الوقت ذاته يتم التغييب شبه التام للمؤشرات الأساسية للاقتصاد الكلي، ولا يصبح لها أي تأثير في أي قرارات يتم اتخاذها في السوق.
هذا بدوره سيؤدي في مجمله إلى صناعة زائفة لمستويات سعرية لا يتوقف تضخمها عند حد معين، وإلى اجتذاب مزيد من الأموال والثروات نحو معارك المضاربات المحمومة على الأراضي، ويأتي ذلك على حساب حرمان بقية القطاعات المنتجة في الاقتصاد من تلك الثروات والمدخرات، ومن ثم حرمان الاقتصاد الوطني من توسع أو ولادة المشاريع المنتجة المعززة لتنويع قاعدة الإنتاج، والموجدة لمئات الآلاف من فرص العمل أمام الموارد البشرية المواطنة. ليس هذا فحسب، بل إن آثار التضخم الزاحف لأسعار الأراضي نتيجة لتلك المضاربات المحمومة عليها، وما تلاها من ممارسات مخالفة ترويجا ونشرا لشائعاتها على أوسع نطاق، ستمتد حتى إلى الأسعار السوقية للعقارات الأخرى المختلفة الأنواع، وإلى تكلفة إيجاراتها السكنية والتجارية والزراعية والصناعية دون استثناء، وكل هذا بدوره سيلقي بظلاله بالتأكيد على جميع بنود تكاليف الإنتاج والتشغيل لمنشآت القطاع الخاص التي ستضطر هي بدورها إلى رفع أسعار منتجاتها وسلعها وخدماتها على المستهلكين، بما سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة المعيشة على الأفراد والأسر، ستواجه هي بدورها في الأغلب بالاضطرار إلى خفض حجم إنفاقها الاستهلاكي، وقد تتخلى عن استهلاك كثير من السلع والخدمات غير الأساسية بالنسبة لها، ليقابله لجوء منشآت القطاع الخاص إضافة إلى اضطرارها لرفع الأسعار، أن تقوم بخفض حجم عمالتها وإغلاق عديد من فروعها العاملة، لمواجهة ارتفاع تكلفة إيجاراتها، ومن جانب آخر لمواجهة انخفاض التدفقات الداخلة، وهذا يعني في مجمله أن حتى منشآت القطاع الخاص القائمة في الوقت الراهن، ستواجه مصاعب جمة في المحافظة على عمالتها الراهنة، عدا أنه سيصبح أمرا بالغ الصعوبة أن تتوسع بإيجاد مزيد من فرص العمل.
إننا أمام مخاطر اقتصادية ومالية واجتماعية واسعة جدا، كآثار ناتجة عن استشراء التعاملات المتركزة على المضاربات المحمومة في السوق العقارية، التي يشاهد بالأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة العدل تركزها على الأراضي تحديدا، وأنه أصبح واجبا على الأجهزة الحكومية التنفيذية ذات العلاقة، القيام بالعمل المتكامل للتصدي لتلك التعاملات وما تنطوي عليه من ممارسات مخالفة، والتأسي في ذلك الاتجاه بالدور المهم الذي تتولى هيئة السوق المالية تنفيذه على السوق المالية، تحت مظلة نظام السوق المالية عموما، وتحت مظلة اللائحة التنفيذية للنظام - لائحة سلوك السوق -، التي كان من أهم نصت عليه ما ورد الباب الثاني من اللائحة، المعنية بمنع التلاعب بالسوق بموجب المادة الثانية منها، حيث نصت على منع التصرفات أو الممارسات التي تنطوي على تلاعب أو تضليل، والمادة الثالثة التي تمنع التصرفات أو الممارسات التي تشكل تلاعبا أو تضليلا، إضافة إلى الباب الرابع من اللائحة المتعلقة بالبيانات غير الصحيحة، ونص المادة السابعة على حظر التصريح ببيانات غير صحيحة بهدف التأثير في الأسعار، أو أي هدف آخر ينطوي على تلاعب أو تضليل، إضافة إلى ما نصت عليه المادة الثامنة من اللائحة التي تحظر تماما أي شكل من أشكال الشائعات في السوق بهدف التأثير في الأسعار.
إن أهمية إقرار مثل هذه الأنظمة واللوائح في السوق العقارية لا تقل بأي حال من الأحوال عن أهميتها في السوق المالية، هذا إن لم تكن أعلى وأكبر أهمية، قياسا على الارتباط الأكبر للسوق العقارية بكثير من الجوانب التنموية الشاملة والاقتصاد الوطني عموما، وقياسا على ارتفاع تأثير أي مخاطر قد تنشأ في السوق العقارية على بقية نشاطات الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص والمجتمع، كما سبقت الإشارة إليه أعلاه من حيث أكبر وأهم آثاره السلبية في منشآت القطاع الخاص والأفراد والأسر، وللحديث في هذا الشأن التنموي المهم جدا امتداد متمم بمشيئة الله تعالى.
نقلا عن الاقتصادية