شهد ما يتجاوز العقد الزمني الماضي، ابتكار المئات وأكثر من تطبيقات التواصل الاجتماعي الحديثة، وأحدثت تغييرات عميقة جدا في حياة الأفراد والمجتمعات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية قديمها وحديثها، جزء منها أسهم في تحسين وتسريع التواصل بين الأفراد، وثراء تبادلهم لتجاربهم وقصصهم وخبراتهم، إضافة إلى المساهمة في نقل الأخبار والمعلومات بسرعة فائقة تجاوزت كثيرا سرعة وسائل الإعلام التقليدية، حتى أصبح المتلقي في قلب أغلب الأحداث والتطورات من حوله محليا وعالميا، وهذا الجانب الإيجابي محدود الفائدة، والجزء الأقل عددا بين تلك المئات من التطبيقات مقابل الجزء الأكثر عددا من التطبيقات الحديثة ذاتها، التي خلفت وراءها كوارث حقيقية في حياة الأفراد والمجتمعات، وصعدت بالأسوأ على حساب الأفضل، وتسببت في الدمار أكثر منه في البناء، وتمادى ببعضها - مع الأسف الشديد جدا - إلى محاربة الدين والأخلاق والمثل والقيم، والسعي الأرعن في الأرض نشرا للفساد والمنكر والبغي والرذيلة، والإمعان الشيطاني في نشر كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تفكيك كيانات الأسرة والمجتمع والدولة على امتداد المعمورة.
أخيرا: دخل إلى حياة المجتمعات في مختلف أنحاء العالم تطبيق حديث، حمل اسم "كلوب هاوس"، يقوم على منح مستخدميه إمكانية تكوين غرف افتراضية، ووضع عناوين للحوار والنقاش الصوتي المباشر بين منشئي تلك الغرف وبقية مستخدمي التطبيق، الذين يمكنهم الدخول لأي غرفة افتراضية من الغرف الافتراضية المفتوحة في أثناء استخدام التطبيق. وحظي التطبيق الحديث بكثير من اهتمام ملايين الأفراد حول العالم، وحاز لفكرته الأساسية في تمكين جميع المستخدمين من الحوار الصوتي المباشر مع بعضهم بعضا، وتجاوز قيود المسافات قصرت أو بعدت فيما بين المستخدمين للتطبيق، إلا أن التطبيق كما أنه حمل ما يمكن وصفه بعديد من السمات الجيدة، التي أتاحت بصورة أسرع وأكثر اتصالا بين المستخدمين، إمكانية الحوار الصوتي والنقاش المباشر بين المستخدمين ضمن غرف التطبيق الافتراضية حول كثير من الأفكار والتخصصات والخبرات والاهتمامات المفيدة، وهذا من أول ما جذب كاتب هذا المقال إلى التطبيق في بداية استخدامه.
إلا أنه رغم ما تقدم ذكره حمل في الوقت ذاته ما هو أوسع وأكبر خطرا وتهديدا لا حدود له على مستوى الدين والأخلاق والقيم ووحدة الأوطان، حيث يتيح التطبيق إنشاء غرف افتراضية يسمح فيها بإثارة الحوارات الصوتية المباشرة بين المستخدمين، دون الالتفات إلى عمر المستخدم أو جنسه أو أي أبعاد أخرى، قد تتطرق في مواضيعها إلى محاربة الدين والأخلاق والقيم، وإثارة النقاشات العابثة والمنفلتة التي تصل إلى نشر الإلحاد والرذيلة والمساوئ الأخلاقية، وكل ما لا يخلو من الإيحاءات والإسقاطات الجنسية، ودعم النظريات المخالفة للفطرة السليمة كالشذوذ والمثلية وغيرها، وامتدادها إلى إثارة النعرات والتحزبات والتمييز والتعصب بأشكاله المختلفة كافة، وإلى زعزعة استقرار الدول والمجتمعات من خلال الغرف الافتراضية، التي يمكن للخارجين عن الأنظمة والقوانين والأعراف في أي مكان من العالم، أن يبثوا سموم انحرافاتهم وتوجهاتهم الهدامة دون أي قيد أو شرط.
تركز كل ما تقدم الحديث عنه أعلاه على مستوى محتوى التطبيق، سواء من جانبه الإيجابي وهو الجانب محدود الأثر، أو من جانبه السلبي وهو الجانب الأكبر والأوسع خطرا وتهديدا. أما على مستوى التقني للتطبيق فقد واجه التطبيق عاصفة هائلة من الانتقادات الحادة، لآلية تعاطيه مع بيانات المستخدمين، وسياسة الخصوصية التي ينتهجها، التي دفعت أكبر منظمة لحماية المستهلكين في ألمانيا إلى اتهام مبتكري التطبيق بارتكاب اختراقات عديدة لقوانين حماية المستهلكين والبيانات، كان من أهم ما تضمنه ذلك الاتهام: (1) قصور في توفير سياسة الخصوصية باللغة الإنجليزية. (2) إجبار المستخدمين على تحميل جهات الاتصال لديهم، وأن التطبيق قد يستخدمها لأغراضه بطرق مشكوك في قانونيتها. (3) عدد من مستخدمي الإنترنت تقدموا بشكوى ضد حصول التطبيق على بيانات عنهم، من خلال البيانات والمعلومات المتوافرة لدى جهات اتصال المستخدمين. (4) في حال رفض مستخدم التطبيق منحه إمكانية الوصول إلى جهات الاتصال لديه، فإن التطبيق بإمكانه الحصول على معلومات عنه من قبل مستخدمين آخرين. (5) اكتشاف حسابات وهمية بأسماء المستخدمين، رغم عدم استخدامهم التطبيق، لإمكانية إنشاء التطبيق عمليا حسابا للمدعوين دون موافقتهم. (6) يمكن للتطبيق أن يسجل بعض المحادثات التي تتم في غرفه الافتراضية، مبررا ذلك بإمكانية استخدام التسجيلات لأجل إجراء تحقيقات في حال وقعت مشكلات وحوادث.
وبعدئذ: كما يبدو من كل ما تقدم الحديث عنه أعلاه، أن دائرة مساوئ ومخاطر التطبيق أوسع بكل أسف من دائرة فوائده، وهذا على العكس تماما من الفكرة الأولية، التي تولدت لدي شخصيا بناء على بداية تجربتي معه خلال أقل من أسبوع، سرعان ما انتهى بي الأمر بعد ما تبين أعلاه من مخاطر مرتبطة بالتطبيق، إلى اتخاذ قراري الخاص بإلغاء اشتراكي فيه كمستخدم، وحذفه نهائيا من جوالي.
ختاما: يجب التأكيد فيما يتعلق بنا تحديدا كمجتمع إسلامي عربي سعودي، وكمجتمع محافظ في معظمه، وأن أي محاولة للصدام مع هذه الحقيقة الثابتة بأي طريقة كانت، فهي أمر مرفوض تماما، ولا يمكن السماح بتجاوزها بأي حال من الأحوال، والتأكيد أن حرية التعبير والنقاش المكفولة للجميع، لا تعني من قريب أو بعيد السماح ببث الأفكار المشبوهة واللا أخلاقية، أو أنها تقبل محاولة استدراج المجتمع لقضايا تمس بوحدته الوطنية وسلمه الاجتماعي ومنظومة القيم الأخلاقية.
إن السماح لهذا التطبيق بالعمل داخل المملكة دون ضبط لإيقاع النقاشات الدائرة فيه، قد يلحق بعض الأضرار، وكما أن لدى المجتمعات والشعوب الأخرى ثوابت واضحة لا يقبل المساس بها، فإن لدى مجتمعنا ثوابته الراسخة والأقوى التي لا يقبل المساس بها. جميع السعوديين يقفون بحزم شديد جدا ضد أي ممارسات على مواقع التواصل الاجتماعي، قد تسعى لزعزعة أمنهم واستقرارهم، أو تحاول المساس بأخلاقهم، أو تتجاوز ثوابتهم، أو تهدد وحدتهم، وفي حال كان هذا التطبيق "كلوب هاوس" سيشكل خطرا حقيقيا، فالتساؤل الأكبر هنا يتوجه إلى هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، لماذا ما زالت تلتزم الصمت وعدم القيام بدورها المسؤول تجاه هذا التطبيق؟ رغم كل مخاطر ثغراته الأمنية الثابت وجودها، ورغم حجم ما حمله من تجاوزات ومخالفات على كل المستويات، بغض النظر عن الجزء المحدود جدا لبعض فوائد محتوى المستخدمين من ذوي الرأي والحوار البناء.
نقلا عن الاقتصادية