استمرار الاستعداد للتداعيات المستجدة للجائحة العالمية

03/02/2021 0
عبد الحميد العمري

حينما تواجه السياسات الاقتصادية في أي اقتصاد حول العالم تحديات غير مسبوقة، كتلك التي تسببت فيها الجائحة العالمية لكوفيد - 19، انعكست على الاقتصاد بانكماشه بالأسعار الحقيقية بنحو 3.7 في المائة، وبنسبة أدنى على جانب القطاع غير النفطي بنحو 2.7 في المائة، واقتران ذلك بارتفاع كل من معدل التضخم السنوي بنحو 3.4 في المائة، ومعدل البطالة إلى 14.9 في المائة بنهاية الربع الثالث من العام الماضي، التي رغم كل الانعكاسات إلا أنها تظل الأدنى حدة مقارنة بمثيلاتها لدى أغلب اقتصادات العالم، وعلى رأسها دول مجموعة العشرين، إنما في مواجهة تحديات اقتصادية ومالية كالتي تقف بوجهها خلال الفترة الراهنة، فلا مجال أمامها إلا بالعمل على تنفيذ سياسات استثنائية وغير مسبوقة، تستهدف أولا زيادة متانة الاقتصاد الوطني في وجه التداعيات العالمية للجائحة، التي ما زال مفعولها ساريا في مختلف الأسواق والاقتصادات، وثانيا العمل على سرعة استعادة تعافي الاقتصاد ونموه، والاستفادة قدر الإمكان من الفرص الكامنة التي عادة ما تمنحها الأزمات العالمية للقادرين على اقتناصها، وتتوافر لديهم الموارد والإمكانات اللازمة.

وقد عملت المملكة في وقت مبكر من بداية الجائحة العالمية كوفيد - 19 في هذا الاتجاه، فاتخذت تدابير وإجراءات سبقت كثيرا من الدول، وعملت على توفير الدعم اللازم للاقتصاد الوطني عموما، وللقطاع الخاص خصوصا، وسخرت موارد وتسهيلات مالية قاربت حتى تاريخه على تجاوز 0.5 تريليون ريال، ما أسهم إلى حد بعيد في تخفيف حدة آثار الجائحة العالمية في الاقتصاد والمجتمع، ووفر حماية كبيرة لوظائف العمالة الوطنية خلال العام الماضي، انتهت إلى زيادة صافية في أعداد العمالة الوطنية في القطاع الخاص بنحو 48.9 ألف وظيفة "نمو سنوي بمعدل 2.9 في المائة"، تحقق أغلبه في النصف الثاني من العام بزيادة صافية بلغت 71.5 ألف فرصة عمل، مقارنة بانخفاضها بصافي 22.6 ألف فرصة عمل خلال النصف الأول من العام الماضي، وهي الفترة التي شهدت أوج صدمة تفشي الجائحة العالمية لكوفيد - 19.

يأتي هذا الحديث في المرحلة التي عادت الجائحة العالمية خلالها إلى الصعود مجددا، تسببت في عودة عديد من الدول، خاصة في أوروبا، إلى تكرار جزء من المشاهد الأولى لبداية مواجهة العالم للجائحة مطلع العام الماضي، وقد تتسع الدائرة لتضم أعدادا أكبر من الاقتصادات في مختلف أرجاء العالم، قياسا على تزايد حالات الإصابات بالفيروس، وهو الأمر الذي سيكون وقعه أشد وطأة على أغلب الأسواق والاقتصادات التي لم تخرج بعد من الآثار الأولى لصدمة الجائحة، ما يعني بدوره أن على راسمي السياسات الاقتصادية في مختلف الدول العمل بصورة أكبر مما مضى، والاستعداد بدرجة أكبر لتداعيات قد تكون أقسى، خاصة في الدول الأضعف نموا والأقل قدرة وموارد مقارنة بغيرها، وما سيكون له من آثار انتقالية في بقية الاقتصادات حول العالم، والأخذ في الحسبان حالة الضعف الاقتصادي عالميا، والمستويات العالية جدا التي وصلت إليها الديون على كاهل الحكومات والشركات والأسر بمئات التريليونات من الدولارات، وكل ذلك يعني مسارات مستقبلية بالغة الصعوبة أمام جميع دول العالم، لا بد أن تتكامل في وجهها جميع جهود وسياسات الدول وبنوكها المركزية، للخروج بأقل الخسائر في نهاية الطريق.

يجب التأكيد أن كل هذه المتغيرات والتحديات، تم أخذها في الحسبان لدى اقتصادنا الوطني، وهو ما تبينت معالمه بصورة واضحة في البيان الأخير للموازنة المالية العامة 2021، الذي لخص آلية العمل المتوقع اتخاذها في مواجهة التحديات المالية والاقتصادية المحتملة، والخيارات الواسعة والمتاحة الممكن الاعتماد عليها لأجل متانة الاقتصاد الوطني واستعادة تعافيه، ومن ثم دفعه مجددا نحو تحقيق معدلات نمو مستدام. تبلورت تلك التحديات في: (1) انخفاض معدلات نمو الاقتصاد العالمي، وتوقع استمرار الأثر السلبي للجائحة العالمية كوفيد - 19، وما يحمله ذلك من تحديات لجميع الاقتصادات في العالم، ومنها اقتصادنا الوطني على طريق العودة إلى معدلات النمو الطبيعية وتعافي الاقتصاد، وتأكيد بيان الميزانية تحمله ذلك من صدمة إضافية تتمثل في الانخفاض الحاد لأسعار النفط، وأنه في حالة امتداد أثر تلك الأزمة الناتجة عن هذه الجائحة العالمية بأكثر من المتوقع، فإن ذلك سيؤثر حتما في النمو الاقتصادي وأداء الميزانية، ولأجل دعم متانة الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته لمواجهة التحديات والمخاطر المحتملة، فقد قامت الحكومة وستستمر بالعمل على اتخاذ سياسات لتحفيز النشاط الاقتصادي، والمحافظة على موقفه المالي المتين، بالاعتماد على تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي، وتنمية الإيرادات للقدرة على التعامل مع الصدمات الخارجية، والاستمرار في التنمية المستدامة.

(2) تقلبات أسواق النفط، مؤكدا البيان أنه رغم الجهود الكبيرة المبذولة من إصلاحات ومبادرات مالية واقتصادية، استهدفت تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل، إلا أن تقلبات أسواق النفط لا تزال تعد من أهم التحديات التي يواجهها اقتصادنا الوطني، لما يمثله القطاع النفطي من أهمية في اقتصادنا كأكبر الدول المصدرة للنفط، ومع استمرار حالة عدم اليقين حول سرعة تعافي الاقتصاد العالمي، واحتمال أن تستغرق تداعيات هذه الأزمة العالمية فترة أطول، فذلك يعني صعوبة التنبؤ بمستقبل أسواق النفط وتقلباته، ما قد يؤدي بدوره إلى اختلاف الإيرادات النفطية عن تقديرات الميزانية، وهو ما سيدفع بالمملكة إلى استمرارها في القيام بدور فعال لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط، وتنفيذ خططها المتعلقة بالتنويع الاقتصادي.

 

نقلا عن الاقتصادية