نحن الآن نقطع هذه الصحاري المهلكات الكبرى في بلادنا الشاسعة كأنها قارة.. نقطعها على طائرات نفاثة تشق عنان الفضاء كالشهاب.. تطوي بنا المسافات الهائلة لا ندري بها.. تطوي لنا شرق المملكة إلى غربها كما تطوى الورقة ونحن ناعمون على مقاعد وثيرة بين ابتسام المضيفات وقراءة الصحف والمجلات، وفي أجواء مكيفة كالربيع، ولكن ما الذي تحتنا؟!
تحتنا صحراء.. جرداء.. جداء.. أطول من ليل الشتاء على المريض المؤرق المتألم.. وأخطر من البحر الهائج المائج على من يقطعه فوق زورق صغير تتقاذفه الأمواج التي ترغي كالفحول، وتصافقه الرياح التي تعوي كالغول..
صحراؤنا الجرداء خالية من النبات، الجدَّاء خالية من الماء، الموات خالية من الحياة.. كان أجدادنا يقطعونها على طولها الرهيب المخيف، على ظهور المطايا حتى تضج المطايا من طول الطريق وتقاذف المسافات، حتى إن الجمل المُسنّ الخبير بطرق الصحراء إذا ركبه صاحبه وسلك به طريقاً لاحباً طويلاً يعرفه الجمل من قبل، فإن الجمل (يجرجر) يبكي بكاء الجمال حين يشم الطريق لمعرفة ما سوف يواجهه من طول هذا الطريق الذي بلا آخر..
وذلك هو ما حدث لامرئ القيس حين ركب جمله (العود النباطي = أي الجمل الكبير السن الخبير بالطرق) فجرجر الجمل باكياً شاكياً ما سيجده من هول الطريق وطوله..
يقول امرؤ القيس:
على لاحب لا يهْتَدَى لمناره
إذا شمَّه العَوْدُ النباطيُّ جرجرا..!
فهو طريق لاحب (أي شاحب لقلة من يطرقه خوف الهلاك) وهو بلا معالم تدل المسافرين (لا يهتدى لمناره) والجمل العود به خبير، لأن امرأ القيس قد قهره على ركوب هذا الطريق الكريه أكثر من مرة في حله وترحاله لاستعادة ملك أبيه حتى هلك هو وجمله العود معاً في رحل أخيرة على ظهر هذا الدرب الصحراوي اللاحب فرثى نفسه قبل أن يموت ونسي أن يرثي هذا الجمل المسكين الذي أفنى شبابه ومشيبه في الهرولة على هذا الدرب الصحراوي اللاحب الشاحب الذي يبدو بلا نهاية.
٭ ٭ ٭
إن أجدادنا يعرفون صحراءنا جيداً.. نحن لا نعرفها على حقيقتها... انهم يسمونها (المفازة) لأنها تهْلك مطاياهم.. وتهلكهم.. سموها (مفازة) تيمُّناً.. ومن باب تسمية الأضداد.. وسموها البيداء لأنها لا تبيد.. تبيد مطاياهم.. وتبيدهم.. وهي لا تنتهي.. ولا تبيد.. ويسمونها (البهماء) لأن كل شيء فيها مُبْهَم.. ويسمونها (الغبراء) لأنها لا ماء فيها.. ولا شجر.. ويسمونها (المهمة) لأنها متاهة هائلة.. ويقولون عنها:
«غبراء الجوانب مجهولة المذاهب تقطع المُطا ويحار بها القَطا» فهي تقطع قلوب المطايا لطولها، وتضيع فيها طيور القطا على معرفتها بها وقدرتها على الطيران.. ويعتبرونها (خَرْقاً) أرضياً لا أول له.. ولا آخر:
يا رُبَّ خَرْق كأنَّ الله قال له
إذا طوتك رقابُ القوم فانتشر
فمهما يخترقوا الصحراء تنتشر أمامهم كأنهم لم يفعلوا شيئاً ولم يسيروا شبرا وقد ساروا ليالي وأياماً مُجْهَدين..
ويعتبرون صحراءنا فضاءً لا نهاية له:
وفضاء يرجع الطَّرْف به
قبل أن يرجعَ مأواه البَصَرُ
فالبصر مهما يُرْجعْ نظره في الصحراء يٌرجعْ وهو كسير..
ويسمونها (اليَبَاب) وهو الامتداد الموات ليس فيه غير لمع السراب.. ويعتبرونها قاتلة الأحبة:
تلقى الأحبَّةَ قتلى في مسالكهما
دياتها في رقاب الفرز والأكَم
فدياتها في رقبة الصحراء التي لا تنتهي ولا ترحم ولاتَدي من تقتل..
حتى المطايا تصيبها الصحراء الشاسعة باللغوب (وهو التعب القاتل) فتموت في مَهْمة الصحراء ولا يبقى غير بقايا هياكلها العظمية شواهد على جبروت الصحراء.. عمرو بن معدي كرب يصف طريقاً صحراوياً طويلاً مهلكاً:
به جيَفُ اللواغب بالياتٌ
كأنَّ عظامها الرَّخَم الوقوع
٭ ٭ ٭
وقد تهب العواصف الترابية في هذه الصحراء الكبرى فيدلهم الجو ويتساوى عند السائر المسكين الليل والنهار والأرض والسماء فهو لا يرى:
ومَهْمه مغبرة أرجاؤه
كأن أرضه سماؤه!
٭ ٭ ٭
ويسمون الصحراء (الدوّ) لأنها تدوي بصاحبها.. يقول ذو الرُّمة:
وَدَوّ ككفِّ المشتري غير أنه
بساط لاخفاف المراسل واسع
ويقول عنها:
«مجهولة تغتال خَطْوَ الخاطي»
وقد اغتالت الصحراء ذا الرُّمة وهو قبل الأربعين من عمره لم يهنأ بشبابه ولم يذق وصلاً من «مي» التي هام بها هياماً..
دوى في الصحراء وهلك عطشاً هو وناقته صيدح..
وأهل نجد يقولون مثلاً يضربونه لمن غاب فلم يرجع أبداً:
«هفّ هفة غيلان على صيدح» وغيلان هو اسم ذي الرُّمة، وصيدح ناقته، وهفّ كلمة فصيحة ومعناها اختفى تماماً..
وكثيرون يرددون هذا المثل ولا يدرون أنه قيل في ذي الرمة وناقته.. فقد هلك عطشاً في صحراء العرب التي طالما وصفها، ووجده بعد شهر هيكلاً عظمياً بجانب ناقته التي يحبها.. عاشا معاً وهلكا معاً..
٭ ٭ ٭
والسائر والساري بصحراء نجد كان قلبه كثيراً ما ينقطع قبل أن يصل، خاصة العاشق:
أقول لصاحبي بأرض نجد
وجدَّ مسيرُنا ودنا الطريق
أرى قلبي سينقطع اشتياقاً
وأحزاناً وما انقطع الطريق
٭ ٭ ٭
وأكثر من عانى من لغوب الصحراء الذي تضج منه المطايا، العرب في الجاهلية، حيث واجهوا فوق تحدي الصحراء وهلاكها، تَحَدِّي قطّاع الطرق المختلفين، وفي مقدمتهم الصعاليك الذين يسرون في الصحراء كالموت الساري يقتلون من يصادفهم كأنهم الغول، يسيرون عراة الا من سروال قصير يكاد يتمزق من شدة العدو وعيونهم تتطاير شراراً وشراً فيقتلون من صادفهم وقدروا عليه ويسلبون ما معه حتى جاء الإسلام الحنيف فساد الأمن والأمان والاخاء والمحبة.
والعرب في جزيرتهم قبل توحيد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - أرض الجزيرة، فقد كانت الصحراء قبل ذلك التوحيد العظيم لاجزائها مهلكة للمسافرين، يجتمع عليهم فيها التعب والخوف، فقد خرج قطاع الطرق من جديد وكان اسمهم (الحنشل) وكانوا يخرجون على قاطع الصحراء كالوحوش فيسلبونه كل ما معه وقد يقتلونه، وإن لم يقتلوه فالأقرب هلاكه عطشاً وجوعاً، حتى أذن الله جلّ جلاله بالفرج فوحد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - جزيرة العرب حتى راية التوحيد - وهي أعظم وحدة عربية في العصر الحديث على الاطلاق - فبدل الله به خوفهم أمناً، وفقرهم غنى، وتباعُدَ أسفارهم اقتراباً، وغيّر الله من حال إلى حال، فعْبدت الصحراء بالطرق، وتوفر الماء والنماء، وساد الأمن بطعمه اللذيذ، وصار المسير في الصحراء نزهة وترفاً، وقد كان والله عذاباً وصراعاً مع الهلاك..
٭ ٭ ٭
وقد كان العرب في جاهليتهم يستعينون بالشعر على قطع شواسع الصحراء، ويسمونه «الحدا» يسرُّون به عن أنفسهم ويحدون إبلهم لتغذ الخُطا وتنسى مشقة الطريق.. وهكذا كان العرب قبل توحيد المملكة بقليل.. كانوا يعاونون إبلهم السارية في كبد الصحراء الشاسعة بنوع من الغناء اسمه «الهجيني» نسبة إلى «الهجن» مطاياهم.. سفن الصحراء.. وكانت الهجن تطرب لغنائهم وتأنس من وحشة الصحراء وتتراقص على وقع الغناء وتغُذُّ المسير وتْسرع الخٌطا..
ورغم هذا بلعت الصحراء الملايين من الرجال ومطاياهم على مَرِّ الدهور.. وقتلتهم وتركتهم صرعى بلا قبور.. قبورهم بطون الوحوش والغربان والنسور..
٭ ٭ ٭
يقول الشاعر العربي يصف السارين يقطعون بحر الصحراء وبحر الليل حتى لينامون من اجهاد:
ركْبُ تساقوا على الأكوار بينهم
كأس الكرى فانتشى المسقيُّ والساقي
كأن أرؤسَهٌمْ والنومُ واضعٌها
على المناكب لم توصلْ بأعناق
خاضوا اليكم بَحارَ الليل آنيةً
حتى أناخوا اليكم فلَّ أشواقي
من كلِّ جائلة التسعين ضامرةً
مشتاقة حملتْ عبئاً لمشتاق
فمطايهم ضامرة وهم ضامرون من السفر المحض في صحراء قاسية موحشة طويلة.. ومطاياهم مشتاقة للوصول لكي ترتاح وتحمل فوقها مثلها فهم أيضاً مشتاقون.
٭ ٭ ٭
ولنرَ كيف وقف الشريف الرضي على «نضْوه» - وهو جمله الهزيل لطول الدرب الصحراوي - كان يسير مع ركبه في صحراء نجد ليل نهار، وفي الدرب وجد أطلالاً لأحباب له كانوا هنا فوقف مذهولاً:
ولقد وقفتٌ على ديارهم
وطلولُها بيد البلى نَهْبُ
وبكَيْت حتى لجَّ من تَعَب
نضْوي وعَجَّ بَعذْليَ الركبٌ
وتلفتت عيني فمذْ خَفَيَتْ
عنى الطلول تلفَّتَ القلبٌ
٭ ٭ ٭
ويقول الشاعر الشعبي حين نوى السفر في هذه الصحراء الهائلة:
فاطري وليّانوينا بالنكوفه
فاصبري والله يعين الصابرين!
روّحي بي جعل روْحَكّ مخلوفه
فرّحيني جعلْك الله تفرحينْ!
وقال الخلاوي يتحدث عن نفسه وسفره:
يجدّ السرى والسير خمسين ليله
وفي كورها ما صافح النوم راكبهْ
فلولا هواه ارتاح حالي وناقتي
ولولا هواه ما اصفرّ جانبهْ
وما قطعه في خمسين ليلة تقطعه الطائرة الآن في ساعة، والسيارة في سبع ساعات، لهذا كان فرحهم لا يوصف حين وصلت السيارات إلى المملكة، وخاصة (الونيت الفورد) الذي يحن إذا عُشق في الأول أو الثاني حتى ما يغرز في الرمل.. ما أجمل حنينه.. مازلتٌ أذكره شخصياً وأنا طفل وأحنُّ له حتى الآن.. يقول فيه مهنا بن إبراهيم المهنا:
واهني اللي على «فرت» جديدْ
يقطع الفرجه إلى عمّد سرابهْ
من دياره لا في صافي الحديدْ
ما قَضَبْه مهندس صلّح خرابهْ
كل ما عشق له بنمره يزيد
ما يعرف أشجار نجد من هضابهْ!
ويقول محمد بن عبدالله البليهد:
أثر ركب «البكس» في الدار البعيده
عندي أحسن من ركوب الموجفات
لا حصل سوّاق والعدّه جديده
والمكينه صاغ وَابعدَ المبات
لنّ ترجاف الرعد رنةّ حديده
والمواتر حادرات وساندات
ينشرون الصبح من خشم الفريده
حقت الاكموم والممسا مرات
يا (جميل) ارفق عليه ولاتزيده
شف علامات الدفينه بينَّات
وان غدا الدربيل ما هو بالفقيده
الفقيده في طريق الحج مات
يقصد زوجته التي انتقلت إلى رحمة الله في طريقها إلى الحج.
نقلا عن الرياض