بيئة النشاط البشري .. منافسة أم صراع؟

11/01/2021 0
عبد الحميد العمري

إذا أمعنت النظر في أي بيئة للنشاط البشري، مهما كان نوع تلك البيئة، فإنك ستجد بكل تأكيد في تفاصيل العلاقات التي نشأت بين أولئك البشر عنصرا أساسيا، يبدأ من المنافسة التي تعد مصدرا رئيسا لطاقة الابتكار والتطوير والإنتاج واستمرار العمل الإيجابي والمثمر، الذي ستتوزع في محصلته النهائية ثمار نتائجه الإيجابية على الجميع دون استثناء، على أرض صلبة من العدالة والنزاهة والاستحقاق يقبل بها جميع المنتمين لتلك البيئة المشتركة، وتنتهي تلك التفاصيل للعلاقات البشرية إلى أقصى أشكال الصراع، الذي بسيطرته لن يبقي ولن يذر أيا من الركائز أو النتائج المشار إليها أعلاه، وبين هذين الحدين المتناقضين - المنافسة والصراع -، تنحصر الحياة المشتركة للبشر ونشاطاتهم فيما بينهم، تتأرجح في تحركها دون توقف بينهما، وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تبدأ القصة البشرية هنا من المكون الأساسي في كل فرد منا، المتمثل في إثبات الذات سعيا لاكتساب ما يزيدها وجودا، ودفعا لما ينقص من وجودها، ويأتي السؤال الأهم: على ماذا سيعتمد الفرد لأجل إثبات ذاته وتعزيز وجوده في حياته المحدودة؟ وما الأثر الذي سينعكس عنه اختيار ذلك الفرد من أسس ومعايير على محيطه أو بيئة النشاط الذي ينتمي إليه؟ إذا اقترن جهد الفرد لأجل إثبات الذات بالالتزام بالحق والقانون والمبادئ والأخلاق واحترام حقوق الآخرين مهما كلف ذلك، وغلبت هذه السمات الرفيعة على أغلب الأفراد في تعاملاتهم في البيئة المشتركة لنشاطهم البشري، فإن الغلبة بكل تأكيد ستأتي لمصلحة إرساء روح المنافسة، وسيمكن لتلك البيئة أن تجني ثمار الابتكار والتطوير وكل الإضافات الملهمة للأفراد المتنافسين فيها.

وعلى العكس تماما، بحال تخلى الفرد لأجل إثبات الذات عن الالتزام بأي من الاعتبارات المشار إليها أعلاه، وتفاقم انتشار ذلك بين أغلب الأفراد المتشاركين بيئة نشاطهم، فإن كفة الصراع هي التي سيعلو كعبها وتسود فوق الجميع في بيئة ذلك النشاط البشري، وسيطغى على كثير من علاقات المنتمين لتلك البيئة ما لا سيسر ذوي العقول الرشيدة، بل سيدفعها إلى الغضب وعدم الرضا ومقاومة اتساع رقعته، ورغم أهمية كل ذلك في الميزان، إلا أن المساوئ ستذهب بعيدا على مستوى بيئة ذلك النشاط البشري، لتئد في طريقها بتلك البيئة نحو الهاوية كل ثمار الابتكار والتطوير وروح العمل لدى الأفراد، ولتسقط بكاملها في مستنقع النتائج النهائية للصراع البشري بين الأفراد، الذي تخلت خلاله الأغلبية عن القيم والأخلاق والمبادئ والالتزام بها وبالقانون واحترام حقوق الآخرين، ولم يكتف الفرد منهم بهذه المساوئ، بل قد تراه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، بالاعتماد على كل ما خالف تلك الاعتبارات من كذب ونفاق وفساد وانتهازية وطمع وجشع، على سبيل المثال لا الحصر، سيكون إحدى أكبر عواقبها الوخيمة سلب حقوق الآخرين، وتجييره في رصيده، والفوز بغنيمة ما هو في الأصل حق لغيره، وما المحصلة النهائية لكل هذا الصراع غير تهاوي بيئة ذلك النشاط البشري في طريق منحدرة، لا ينتظرها في نهايته غير قاع سحيق من الفشل ونهاية حياتها غير مأسوف عليها.

وفي واقع بيئات الأنشطة البشرية على اختلافها وتنوعها لا النهائي، ستجد أنه عدا ما يدور بين البشر المنتمين لأي من بيئات تلك الأنشطة، بين الحدين المتضادين لما يجري الحديث عنه هنا سواء كانت روحا للمنافسة، أو ضدها ممثلا في روح الصراع، فإن المواجهة المستمرة بين أي من المنافسة والصراع، ومحاولة المنتمين لأي من تلكما الروحين المتضادتين لفرض السيطرة على بيئة النشاط البشري المشترك، وإخضاعها لمعايير ومبادئ أي منهما، هي أيضا مواجهة محتدمة الوطيس بدأت منذ القدم ولا موعد نهائي لها إلا حين يرث الله الأرض ومن عليها، تعتمد بدرجة كبيرة جدا على عامل مرجح لأي من الكفتين، فما هذا العامل المرجح المهم جدا؟

يعد من أهم ما سيرجح الكفة في تلك المواجهة، وأي فريق سيكتب له الانتصار وفرض سيطرته على بيئة نشاط بعينه، ما هو متمثل في رؤوس هرم بيئة ذلك النشاط البشري من قيادات ومديرين ومسؤولين رفيعين، أولئك الذين يمتلكون القوة الأكبر لإرساء أسس وثوابت ومقومات أي روح من الروحين المتضادتين سواء المنافسة أو الصراع، والعمل المستمر من قبل تلك المستويات العليا ذات المسؤولية الأكبر، على المحافظة على تلك الأسس والثوابت والمقومات اللازمة لتفوق المنافسة أو ضدها الصراع، وفي الوقت ذاته استمرار محاربة أي تسرب أو اختراق لأسس وثوابت ومقومات الروح المرفوض وجودها في بيئة النشاط، فبحال سادت روح المنافسة، وهو الأمر المطلوب والمأمول بكل تأكيد، سيكون على الجميع وفي المقدمة المستويات العليا بكل تأكيد، إضافة إلى جهود إرساء تلك الروح والعمل بموجب أسسها وثوابتها ومقوماتها، العمل أيضا على محاربة وتجريم الروح المضادة لها بكل ما لديها من قوة وإمكانات متوافرة، وهذا بكل تأكيد ما سيحدث بحال العكس إن سادت روح الصراع، وإن اختلفت الأدوات والوسائل، إلا أن النتيجة النهائية في هذا الاتجاه غير الرشيد والمخالف، تعني القضاء على روح المنافسة ومنح النصر لروح الصراع.

رغم كل ذلك، لا يعني أبدا أن يستسلم الفرد المؤمن بالتزام الحق والقانون والمبادئ والأخلاق واحترام حقوق الآخرين مهما كلفه ذلك، ولا يملك القدرة المادية أو الصلاحية اللازمة على إصلاح محيطه إذا فسد أو شابه شيء من الفساد، فإقامته لأمره وإصلاح حاله، مكسب له وزنه العظيم عند خالقه ثم مجتمعه، ولا ولن يضره أبدا إن عاكس تيارا يحيط به قد يغلب عليه كثير مما يختلف عن رؤيته ومنهجيته، حتى إن ترتب عليه فوات مكاسب دنيوية، أو تحمله خسائر آنية، كونه أولا وآخرا، وهو الأهم بكل تأكيد، قد كسب نفسه في الدنيا، ورجح مصيره في آخرته، وأنه بذلك - شعر بذلك أم لم يشعر - قد يكون ضرب مثلا أخلاقيا عاليا لغيره من المحيطين به، فيقتدون به اليوم أو غدا، ثم سيقتدي بهم آخرون - بتوفيق الله - في أيام تالية، ولكل هذا أجره عند ربه، وقد يرى في حياته أثر ذلك الصلاح وتلك الاستقامة، وما أكثر أمثلة ذلك في حياة البشر على امتداد تاريخها، واتساع جغرافيتها.

 

نقلا عن الاقتصادية