قبل أيام ودّع العالم أصعب أعوامه من حيث تعقيد الأزمات التي ألمّت به بسبب جائحة «كوفيد 19» التي خلفت أزمات اقتصادية واجتماعية ضخمة؛ فليس المهم سرد تفاصيل ما حدث به بقدر ما تحقق فيه من متغيرات ذات طبيعة دائمة، ستبقى قائمة بعد زوال الأزمة. فهذا الفيروس متناهي الصغر نهب من العالم تريليونات من الدولارات ما بين خسائر التعطل بسبب الإقفال الكبير للكثير من الأنشطة التجارية والخدمية، والحزم التحفيزية التي ضُخت، وما زال العالم يحقن المزيد من المال للعودة للنمو. فبعض التقديرات تتوقع أن يصل حجم التكاليف التي تسببت بها هذه الأزمة، ما بين تداعيات الركود الاقتصادي وحزم التحفيز، إلى 28 تريليون دولار خلال الأعوام الخمسة القادمة. لكن بالرغم من كل هذه السلبيات التي نتجت من الأزمة إلا أن هناك متغيرات مهمة ومفصلية بتاريخ الاقتصاد العالمي حدثت، وأيضًا هناك مستفيدون حققوا مكاسب خيالية لم يكونوا على موعد معها.
فمن المتغيرات المهمة على الصعيد الدولي طريقة التعاطي مع الأزمة. فمن توافق كبير في مجموعة العشرين على سرعة إطلاق حزم تحفيز، قُدرت بنحو 11 تريليون دولار أمريكي، إلى تكاتف لدعم أبحاث إنتاج لقاحات تضع حدًّا لتفشي الفيروس مع توجُّه من الدول الأكبر اقتصاديًّا لإطلاق مبادرات تخفف على الدول الأكثر احتياجًا أعباء سداد ديونها، لكن ما يمكن اعتباره جانبًا لافتًا في التعاون الدولي هو ما حدث باتفاقات أعادت لسوق النفط توازنه بعد انهيار كبير في الأسعار في شهر إبريل الماضي. فاجتماع دول أوبك مع كبار المنتجين من خارج المنظمة للتوافق على القيام بأكبر عملية خفض للإنتاج تاريخيًّا أكد أن هذا السوق لا بد من أن يحميه جميع المنتجين لا أن يكون العبء على منظمة أوبك فقط. وحققت المملكة العربية السعودية إنجازًا تاريخيًّا بمبادرتها؛ ليجتمع جل المنتجين في العالم على طاولة واحدة، ويقدموا نموذجًا مهمًّا من التعاون في حماية سوق هذه السلعة الرئيسية ذات الدور الكبير في تنشيط حركة الاقتصاد العالمي. فهذا التعاون أثبت نجاحه بعد أن عادت الأسعار في ثمانية أشهر من 19 دولارًا إلى تخطي 52 دولارًا، وإقفال سنوي عند 51،80 دولار لخام برنت، وهو ما يعني أننا سنشهد غالبًا مثل هذا العمل من الجميع لاستقرار أسواق النفط بخلاف ما كان يحدث خلال العقود الماضية من قيام أوبك غالبًا بهذا الدور منفردة؛ فقد أصبح لجميع المنتجين دور عملي في توازن السوق.
أما فيما يخص توجّه الاستثمارات وارتباطها بهيكلة الكثير من الدول لخططها الاقتصادية فإن العالم أفاق في هذه الأزمة على خطورة تركز صناعات كثيرة بالصين، واعتماد الدول عليها بنسبة كبيرة مما أربك حركة التجارة العالمية، وأثر على سلاسل الإمداد مما أدى لترديد الكثير من الدول تصريحات رسمية بضرورة الاتجاه للتصنيع الداخلي فيها لتوفير جل احتياجاتها دون الاعتماد على الواردات بنسب كبيرة، أي إن النشاط الصناعي سيشهد نموًّا كبيرًا في السنوات القادمة، وسيؤثر في توجهات الاستثمارات، وكذلك مخرجات التعليم والتأهيل.
أما قطاع الأعمال فقد خرج قسريًّا بفعل هذه الجائحة من تنفيذ الأعمال بطرق تقليدية؛ ليتحول إلى استخدام واسع للتقنية في العمل عن بعد، وهو ما يعني تغيّرا مستقبليًّا كبيرًا في طريقة عمل دراسات الجدوى للمشاريع والاحتياج الفعلي لمقار العمل وأعداد الموظفين والتخصصات المطلوبة التي برزت الحاجة لها مع هذه الأزمة. أما مليارديرات العالم فلم يكن جميعهم خاسرين كما حدث للمستثمرين بقطاعات السفر والسياحة والطيران والترفيه، بل زادت ثروات كبار مؤسسي شركات التكنولوجيا بأرقام فلكية؛ إذ زادت ثروات مليارديرات العالم الذين يقدر عددهم بنحو 2190 مليارديرًا بنحو 1،8 تريليون دولار؛ لتصل إلى قرابة 10 تريليونات، لكن ليسوا كلهم سواء؛ فهذه الزيادات كانت جلها من نصيب ملاك شركات التكنولوجيا (أمازون وأبل وتسلا وزوم ومايكروسوفت)، بينما تراجعت ثروات من يعملون بالقطاعات المتضررة بنسب كبيرة. ومثل هذه الأرقام تعكس أن الفجوات في العديد من دول العالم زادت بين طبقات المجتمع، بل حتى الفوارق ستزيد أكثر بين الدول الغنية والفقيرة، وهذا ما حذرت منه الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة طالبة المزيد من التكاتف الدولي، وتقديم الدعم بطرق عديدة للدول الفقيرة لمنع انزلاقها للفوضى.
حصاد العام الماضي ليس سوى مقدمة لأحداث وتغيرات كبيرة قادمة بسنوات هذا العقد؛ لتؤسس لمستقبل العالم طوال هذا القرن الذي انتقل لمرحلة ومنعطف تاريخي واسع، لا يمكن حصر حجم المتغيرات فيه التي سيكون عامًا بعد عام، ومَن سيكون بين كبار دول العالم اقتصاديًّا؟ وما هو مستقبل الأنشطة التجارية؟ وكيف سيقود الذكاء الاصطناعي العالم؟ وما هو مستقبل التعليم والتخصصات التي ستختفي، ويحل مكانها علوم جديدة، وأساليب مختلفة في تأهيل الكوادر البشرية؟
نقلا عن الجزيرة