عام الحزن الاقتصادي.. والحصاد المر

27/12/2020 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

لو جاز لنا أن نصنف عام 2020، فسندرجه موسوماً بشارة سوداء غليظة ضمن سجلات الأعوام التاريخية المؤلمة، فهو عام "اللا معقول" بامتياز، ففي فبراير الماضي، وقبل أن يصطدم العالم بالوباء القاتل، وحجر نحو أربعة مليارات نسمة في منازلهم، كان بعض المحللين يتحدثون بعجرفة عن عدم وجود ركود في الأفق، قائلين إن معدل ربحية أسهم الشركات الـ 500 المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بورز سيرتفع بنحو 170 دولار بنهاية عام 2021، ولكن بعد شهر، توقف العالم تماماً، وانخفض سوق الأسهم 35٪، بينما غرقت الاقتصادات العالمية في أسوأ ركود منذ سنوات الكساد العظيم ثلاثينيات القرن الماضي.

كشف عام الحزن الاقتصادي، عن الطبيعة الاستثنائية والمعدن القوي للبنوك المركزية، حيث أظهرت كفاءة نادرة في تطبيق ما تعلمته من دروس الأزمة المالية العالمية في 2008، فنجحت باجتياز وباء عالمي وعمليات إغلاق غير مسبوقة، واستجابت بقوة لتداعيات الأزمة حتى تمنع الأسواق من الجمود، ووفرت أموال طائلة للمحافظة على استقرار الأسواق، وتمويل الإنفاق الهائل للحكومات، كما أظهرت مرونة واستجابة نشطة لتفاعلات الأزمة وتطوراتها الاقتصادية المحزنة، ونجحت في الصمود أمام الضغط، بعدما وجدت نفسها مجبرة على إخراج غالبية ما تحت البلاطة، وبطبيعة الحال، اندفع المستثمرون إلى الأسواق لشراء كل شيء بسبب توافر الظروف النقدية فائقة السهولة.

بالرغم من ذلك، لم يستطع العمود الفقري المؤسسي إخفاء ضعف رؤساء البنوك المركزية الأكثر أهمية، فلا رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، ولا رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، لديهما المؤهلات اللازمة لإدارة الأزمة الأسوأ في التاريخ الحديث، فكلاهما محاميان، صنعا إنجازات مسيرتهما المهنية في مجالات غير مصرفية، فجيروم باول الذي تلقى تدريباً على رأس العمل في الاحتياطي الفيدرالي، كان يرتكب أخطاء المبتدئين من وجهة نظر الكثيرين ومنهم الرئيس ترامب قبل هذه الأزمة، فقد تعلم الالتزام بالنص المكتوب من آخرين يفهمون دولاب العمل المصرفي، ولهذا كان ترامب يهاجمه بضراوة لأنه كان يعتقد أن فنياته لا ترقى للمنصب الذي هو أكبر منه.

نفس الأمر ينطبق على رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، إذ لم يكن لديها خبرة مصرفية مركزية، وسقطت مراراً وتكراراً في فخ إطلاق تصريحات لا تتناسب مع تفاعلات الأسواق، ولهذا كان ينبغي على كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي فيليب لاين، وهو المحافظ السابق للبنك المركزي الأيرلندي، التدخل والبدء في تدارك أخطاء لاجارد على مستوى الاتصال الإعلامي، وهكذا تنهي البنوك المركزية الكبرى العام المضنى بأنين الألم بدلًاً من أهازيج الفرح، معلقة تعافي اقتصاداتها على انفراجة توزيع اللقاحات.

بلا أدنى شك فإن يوميات عام الحصاد المر لا تنسى، ولن تمحى من الذاكرة الإنسانية، وستذكرها الأجيال المقبلة، وسيرويها الأجداد للأحفاد، فعلى مدار الاثني عشر شهراً الماضية، عاش أكثر من سبعة مليارات من البشر على أعصابهم، بعدما ألحقت الجائحة أشد الضرر بالفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً، وضعت العالم رهينة الإغلاق الكبير، مما تسبب في فقدان أكثر من 345 مليون شخص وظائفهم، وزج بأكثر من 90 مليون نسمة في براثن الفقر المدقع، إيذاناً بأول انتكاسة لجهود مكافحة الفقر المدقع في جيل كامل، وانكمش الاقتصاد العالمي بأكثر من 4%، وهذا يعني خسائر فادحة بنحو 28 تريليون دولار، فيما سجلت أسعار النفط أكبر تذبذب تاريخي تحت ضغوط تفشي الجائحة.

أما حديث الديون المتراكمة، فهو ذا شجون وآلام مبرحة، فعلى الرغم من أن خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورية لتجنب الكساد، إلا أن هذه الخطط الاستثنائية أغرقت العالم بالسيولة والقروض، فتضخم الدين العالمي إلى مستويات قياسية تجاوزت 277 تريليون دولار، أي ما يعادل 3 مرات ونصف المرة حجم الاقتصاد العالمي، الأمر الذي يزيد من مخاطر عدم القدرة على السداد في أعوام الركود، ولا شك أن المزيد من الديون يعني المزيد من المتاعب.

يقيناً، لن تكون مرحلة ما قبل كورونا أبداً كما هي بعدها، فانتشار الجائحة شكل أكبر تحدٍّ اقتصادي واجتماعي ومالي منذ 100 سنة، وهذا مردّه إلى أن كل القطاعات الاقتصادية النوعية تأثرت بالإغلاقات، ما أجبر الجميع على إعادة الهيكلة، وعلى سبيل المثال قطاع السياحة والسفر الأكثر تضرراً، والذي قد تصل خسائره لأكثر من 900 مليار دولار، وقطاع الطيران المهدد بخسائره تلامس 419 مليار دولار، هذا فضلاً عن تفشي حالات إفلاس لا تعد ولا تحصى لدى الشركات في كافة القطاعات تقريباً.

اللافت في الأمر، هو طريقة الصين، المثقلة بشعب ملياري، في إدارة الأزمة، فالأرقام تؤكد أنها تؤدي اقتصادياً كما لو أن الجائحة لم تكن، فالمناعة التي يتمتع بها القطاع الصناعي، ومتانة سلاسل الإنتاج وقدرتها على التوسع سريعاً، إضافة إلى الإنفاق الاستهلاكي الكبير والدعم الحكومي، عوامل مجتمعة أسهمت في دفع النمو الصيني خلال الربع الثالث، لتسجل 4.9%، كما حفز الدعم الحكومي النمو بحدود 1.7% خلال هذه الفترة، وساعد الاستثمار على دفع النمو بنسبة 2.6%، إضافة إلى التصدير الذي دعم النمو بحدود 0.6%، ليصبح بذلك التعافي الصيني الأنجح بكل المقاييس عالمياً، رغم أنها بلد المنشأ للأزمة المروعة.

 

خاص_الفابيتا