أسهمت الإصلاحات الهيكلية الواسعة في الاقتصاد الوطني التي تم تنفيذها طوال الأعوام الأربعة الماضية في ترسيخ وزيادة صلابة الاقتصاد الوطني تجاه أغلب تقلبات الاقتصاد العالمي عموما، وأمام تذبذبات الأسعار العالمية للنفط، وأضافت إلى مرونته وقدرته على التعامل بخيارات أوسع تجاه الأزمات المحتملة، ومن ضمنها ما نتج عن الأزمة العالمية لتفشي جائحة كورونا كوفيد - 19 من تداعيات بالغة الضراوة على جميع الاقتصادات والأسواق خلال العام الجاري، كما أظهره وأكده كل من نتائج أداء الميزانية العامة للدولة، وتقرير الناتج المحلي الإجمالي ومؤشرات الحسابات القومية للربع الثالث 2020.
عكست تلك النتائج في المجمل رغم تراجع النمو الاقتصادي الحقيقي بنحو 3.8 في المائة عن الثلاثة أرباع الأولى من العام الجاري، ورغم ارتفاع عجز الميزانية خلال العام الجاري إلى نحو 298 مليار ريال "12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"، وغيرها من المؤشرات غير المواتية نتيجة تداعيات الأزمة العالمية الراهنة، تؤكد القراءات الأولية لتلك النتائج أنها جاءت أدنى بكثير مما لو لم ينجح الاقتصاد الوطني في تنفيذ الإصلاحات اللازمة طوال الأعوام الماضية، وكيف أنها أسهمت في منح الإدارة الاقتصادية والمالية خيارات أوسع، للتعامل بمرونة وقدرة أكبر مع تداعيات الجائحة العالمية، ودون التخلي عن مسار ونهج البرامج والسياسات الإصلاحية طويلة الأجل، ودون تحمل أعباء اقتصادية ومالية أكبر كما حدث لدى كثير من الاقتصادات حول العالم.
إن من أهم ما يمكن الاستشهاد به هنا على ما تقدم ذكره أعلاه بلغة الأرقام، ما أظهرته تفاصيل الميزانية العامة للدولة للعام الجاري من انخفاض للإيرادات النفطية بنسبة 30.7 في المائة إلى نحو 412 مليار ريال، وهو الحجم من الإيرادات الذي يعني أن تغطيتها بند تعويضات العاملين في الدولة بما لا يتجاوز 83.7 في المائة، ليأتي هنا بالأهمية القصوى لما تم إنجازه على طريق تعزيز مصادر الدخل الأخرى للميزانية، المتمثل في رفع حجم متحصلات الإيرادات غير النفطية إلى نحو 358 مليار ريال، لتشكل نحو 46.5 في المائة من إجمالي الإيرادات، وهو الرقم الذي يعني تحقيقه لنمو وصلت نسبته إلى 115.3 في المائة، مقارنة بمستوى متحصلاتها قبل بدء إصلاحات الاقتصاد الوطني، والمضي به قدما على طريق زيادة تنويع قاعدته الإنتاجية، وزيادة تنويع مصادر الدخل بالنسبة للميزانية العامة للدولة، وخفض الاعتماد الكبير على دخل النفط.
وهو أيضا ما أسهم بصورة أكبر في خفض حجم العجز المالي للميزانية، ومنح مرونة أكبر لإدارة السياسة المالية للوفاء بما عليها من متطلبات ومسؤوليات اقتضاها التعامل الكفء مع تداعيات الجائحة العالمية، حيث لو ظلت الإيرادات غير النفطية عند مستويات مقاربة لما كانت عليه قبل الإصلاحات الهيكلية التي تمت، لشهدت الميزانية العامة للدولة ارتفاعا في العجز المالي سيتجاوز 64.3 في المائة خلال العام الجاري، أي: كان سيصل إلى نحو 490 مليار ريال، ولن يقف عند مستواه الراهن البالغ 298 مليار ريال، أي بزيادة تحقق النجاح في تجنبها بنحو 192 مليار ريال، كانت ستدفع بالدين العام إلى مستويات أعلى مما هي عليه خلال الفترة الراهنة، وهذا الأمر لا تقف أهميته العالية جدا عند ما حدث خلال العام المالي الجاري، بل يشمل ما سبقه من أعوام ماضية بدءا من العام المالي 2016 وما تلاه التي بفضل الله، ثم بفضل ما تم تنفيذه من إصلاحات هيكلية واسعة وجذرية، أسهمت بصورة كبيرة جدا في النأي بمسافات بعيدة للاقتصاد الوطني والميزانية العامة للدولة، عن كثير من الأعباء الاقتصادية والمالية التي لا قبل لأي اقتصاد حول العالم بها، عززت في مجملها من الاستقرارين المالي والاقتصادي لبلادنا، ومنحته خيارات أوسع وأرحب للتعامل كما يجب مع أي تطورات اقتصادية عالمية أو محلية.
إن ما أظهره الاقتصاد الوطني من متانة وصلابة في وجه تداعيات هذه الجائحة العالمية، عدا أنه يؤكد أهمية ما تم إنجازه طوال الأعوام الأربعة الماضية من إصلاحات هيكلية، فإنه يؤكد أيضا أهمية الاستمرار في إنجاز بقية مستهدفات تلك الإصلاحات وبرامج التطوير، وأن يخضع أيضا جميع البرامج التنفيذية والسياسات الاقتصادية لمزيد من المراجعة والتطوير، بالصورة التي تؤهلها لتحقيق مزيد من التقدم والعوائد المجدية للاقتصاد والمجتمع على حد سواء، ذلك أن ما أحدثته الجائحة العالمية الراهنة من تداعيات وتغييرات جذرية على مستوى الاقتصاد العالمي وجميع أسواقه ولا تزال حتى تاريخه، يقتضي بدوره مزيدا من العمل وبذل كثير من الجهود التي لا تقف عند حد ثابت، تستهدف في مجملها إضافة التغييرات اللازمة إليها في مواجهة الأوضاع المستجدة للاقتصاد العالمي عموما، والاقتصاد الوطني خصوصا.
وأن يتم العمل على زيادة كفاءة تلك البرامج والسياسات بالصورة التي تؤهل الاقتصاد الوطني نحو التعافي السريع في الأجلين القصير والمتوسط، ومن ثم النمو بوتيرة أسرع لاحقا في الأجل الطويل، وهذا بكل تأكيد سيتطلب نهجا جديدا من آلية رسم ووضع تلك البرامج والسياسات، لعل من أهم سماته أن يتركز جهد التفكير وتصميم تلك الاستراتيجيات والبرامج في مركز أعلى للتفكير والابتكار الشامل والمتكامل لجميع متغيرات الاقتصاد والمجتمع، وتنحصر مهام التنفيذ وترجمة تلك الاستراتيجيات على أرض الواقع لدى الأجهزة الحكومية التنفيذية، وهو أحد أهم التطورات التي سيحدث العمل بها نقلة نوعية كبيرة جدا، ستصب عوائدها الكبيرة في مصلحة الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وعدا أنها ستسهم في المحافظة على ما تم تحقيقه من منجزات، بحمد الله حتى تاريخه، فإنها ستسهم أيضا في تحقق مزيد - بمشيئة الله وتوفيقه - بفارق أكبر وأوسع على طريق الارتقاء والتنمية المستدامة والشاملة، وهو ما يستحق التوسع في الحديث عنه مستقبلا بإذن الله تعالى.
نقلا عن الاقتصادية