ربما مصادفة مع صدور الميزانية قرأت مقالا يحاول إعادة بعث ما يسمى "معادلة تيلر" Taylor Rule، وأن جوهر هذه المعادلة كتوصية للبنك الفيدرالي الأمريكي أنه في حالة استمرار التضخم ترتفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل في أمريكا بنسبة أعلى بقليل من ارتفاع نسبة التضخم، بهدف أن تكون السياسة النقدية أكثر رتابة واستقلالية ويسهل التنبؤ بها من قرارات مسؤولي البنك الفيدرالي، بما في ذلك الضغوط عليهم المتغيرة أحيانا دون مرجعية متفق عليها. السياسة النقدية محور رئيس في السياسة الاقتصادية الأمريكية يقابلها في الأهمية لدينا السياسة المالية. بل ربما السياسة المالية لدينا أهم من السياسة النقدية في حالة أمريكا، نظرا لتنوع القاعدة الاقتصادية وتعدد آلياتها لديهم واعتمادنا الأساسي على السياسة المالية، لذلك الأحرى إعادة التفكير في طبيعة المنظومة المالية ليس بهدف الاستدامة المالية فقط، لكن لإعداد وسط مالي أكثر ملاءمة وتناغما لسياسة اقتصادية مختلفة لخدمة التحديات التنموية.
جوهر مقترحي هنا أن ترتفع نسبة المصادر المالية غير النفطية بنسبة أعلى من نسبة نمو المصاريف الثابتة - الرواتب والتشغيل والصيانة - في المالية العامة كي يتيح دخل النفط المتغير لتمويل المتغير دائما في المعادلة المالية - الاستثمارات وتسديد القروض وتوفير رصيد مالي. لم يتوقع أحد نجاح المملكة في إعادة ترتيب المالية العامة في الأعوام القليلة الماضية، خاصة في رسوم العمالة ومن ثم الضريبة المضافة والرسوم على الأراضي وتحليل النفقات، لذلك أسست قاعدة للاستمرار الناجح. عمليا ربما نستهدف الصيانة والتشغيل - ربما تم إنجازه في 2020 - ومن ثم الرواتب والأجور. هدف مرحلي واضح: أن يكون تمويل الرواتب والأجور من مصادر غير نفطية.
السياق المالي الذي تكون من جراء تجربة المملكة على مدى العقود القليلة الماضية يتضمن عدة خواص، الأولى: المصاريف الثابتة ترتفع بوتيرة مستمرة إلى أن وصلت إلى مستوى أقل من دخل تصدير النفط لعدة أعوام، ما يعرض اقتصاد المملكة إلى تذبذب يجعل السياسة المالية والاقتصادية في حرج. الثانية: دخل النفط متذبذب بطبيعته لكن أيضا ربما هناك تغيرات هيكلية عالمية لم تعد صديقة للصناعة النفطية، ولعل أكبر تعبير أن سعر النفط الحقيقي لم يواكب التضخم لعدة أعوام مضت. الثالثة: تصرفات الفعاليات الاقتصادية "الأفراد والشركات تلاحق المال دون اعتبارات اقتصادية جماعية". التمكن من مواجهة التحدي المالي بغرض التهيئة الاقتصادية يتطلب سيطرة من خلال معادلة مستقلة وتدرج لتفادي أي صدمات اقتصادية اجتماعية، وفصل تمهيد لفصل القرار المالي عن الاقتصادي. طالما قارن كثيرون بالتجربة النرويجية التي نجحت لأسباب مؤسساتية، لكن نجاحها العملي تمخض جوهريا في العلاقة المالية مع دخل النفط. لذلك مسار المقترح أن يأخذ بالتجربة السعودية نحو المسار النرويجي من خلال "معادلة تنظيمية" ينخرط فيها الجميع حتى نصل إلى أن يصبح دخل النفط عامل توازن واحتياطيا ودخلا إضافيا وليس المصدر الأساس لتمويل الميزانية العامة. لن نصل في أعوام قليلة، لكن ما تم من إنجاز فاجأ الجميع بالقوة والجدية، لذلك لدينا القدرة المؤسساتية، شهدنا مثالا حيا على إصلاح منظومة الكهرباء ماليا بالتعاون بين الطاقة والمالية والشركة ومدينة الملك عبدالله للطاقة. قد يتضمن الأخذ بالمعادلة إعادة تحجيم الاقتصاد الوطني لتصبح الإنتاجية والتصدير أهم من الحجم والرفاهية، وبالتالي نصل إلى مرحلة يصبح المال خادما للتحولات الاقتصادية كبديل عن السياق الحالي. التشبيهات العالمية لا تؤخذ حرفيا، لكن لنا أن نتعلم من الآخرين ما يناسب التحديات الخاصة والمخاطر والإجماع على توجه البوصلة. تحد كبير وجديد على دول المنطقة، ولذلك لن يقوده غير السعوديين.
نقلا عن الاقتصادية