في خلال أقل من أسبوع استقال أو أقيل رئيس البنك المركزي ومن ثم وزير الخزانة صهر الرئيس أردوغان بعد صعوبات اقتصادية ومالية عبر عنها انخفاض سعر صرف الليرة نحو 30 في المائة في هذا العام فقط، حيث سجلت انخفاضا بأكثر من 80 في المائة منذ تولي أردوغان السلطة في 2002. جاءت حكومة أردوغان بعد تعثر آخر للاقتصاد التركي وتدخل صندوق النقد الدولي، واستفادت كثيرا من تنظيف الحقبة السابقة وحققت نموا عاليا جعل تركيا نجما اقتصاديا، لكن تركيا دخلت منعطفا اقتصاديا خطيرا منذ بداية 2018 لأسباب منها هيمنة السياسة على القرار الاقتصادي ("الاقتصادية": منعطف الاقتصاد التركي، 31 يوليو 2018)، حين كتابة ذلك المقال لم تكن الأوضاع الاقتصادية على ما يرام، لكن لم يتوقع أحد أن تستمر الإدارة الاقتصادية خاصة والسياسية عامة في مواصلة الأداء المتواضع. الآن وصلت تركيا إلى حالة لا تختلف كثيرا عن نقطة البداية من ناحية التضخم وأسعار الفائدة العالية والبطالة وانحسار الاحتياط من العملة الصعبة والثقة في المنظومة الإدارية وعدم الرضا المجتمعي. استقالة كبار المسؤولين عن السياسة المالية والاقتصادية نذير بخصوصية التجربة التركية التي يمكن أن تلخص في ثلاث دوائر في الاقتصاد السياسي.
الدائرة الأولى تاريخية، إذ يذكر مؤرخ تركي في جامعة ستانفورد، أن تركيا لم تجد التوازن في النظام السياسي بما يسمح بالاستقرار الكافي للتقدم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا منذ نهاية القرن الـ 19، ولذلك تتكرر الأزمات بأشكال مختلفة تحت أنظمة حكم مختلفة مدنية أو عسكرية. فكل موجة تقدم يعقبها موجة خسائر لكثير مما تحقق، لتعاد الكرة مرة أخرى. لعل حقبة أردوغان دخلت الجزء الأخير من الاستحقاق للنهاية. في العقد الأول من حكومة أردوغان تحقق نجاح مؤثر لكن العقد الثاني بدأت رحلة النزول من باب التركيز على الخارج على حساب الداخل.
الدائرة الثانية تخص الظروف الدولية والإقليمية وتفاعل القيادة التركية معها. ظروف المنطقة في جنوب تركيا والبلقان وشرق المتوسط ربما أغرت وأرغمت تركيا على خيارات صعبة، لكنها وجدت في توجهات القيادة التركية الأيدولوجية نزعات وتدخلات مكلفة في عدة دول وتشتت البوصلة الاقتصادية، فتركيا ليست كوريا، لكن أقرب إلى أولويات النموذج الإيراني التوسعية. هذه السياسات أدت إلى جفاف الاستثمارات الأجنبية بمساعدة من أزمة كورونا، خاصة في السياحة التي تشكل نحو 10 في المائة من الدخل القومي الإجمالي. الخيارات في تركيا مردها شخص الرئيس.
الدائرة الثالثة تدور حول محاولات الرئيس أردوغان التدخل في إدارة الشؤون الفنية النقدية والمالية. فلم يعد سرا دعوات الرئيس المتكررة علنا بحفظ أسعار الفائدة قبل 2018، حين أقال رئيس البنك المركزي في وسط 2018 بسبب رفضة الانصياع واستبداله بآخر حتى الأسبوع الماضي. خفض نسب الفائدة جاء على حساب سعر صرف الليرة وتضخم أعلى وعدم ثقة بالإدارة الاقتصادية. أعتقد أردوغان - سطحيا - أن تخفيض الفائدة سينقذ الشركات التركية التي لديها قروض كبيرة، لكن التضخم أرعب الجميع بالهروب من الليرة. يصعب أن تنزل الفائدة وتستقر الليرة وينخفض التضخم في الوقت نفسه على الأقل في المدى المتوسط.
نظرا لتداخل هذه الدوائر يصعب التنبؤ كيف تتجاوز تركيا الأزمة؟، لكن الأحرى أن يبدأ التعامل مع الدائرة الثالثة لإعادة الثقة في القرارين النقدي والمالي، ومن ثم الثانية لإعادة توجيه الاهتمام والمال للداخل التركي. الدائرة الثالثة تحتاج إلى تراكم نجاحات وتغير في ممارسات النخبة، وتعاون طويل المدى بين الحكومة والقطاع الخاص ودرجة أعلى من الرضا والسلم الاجتماعي لتمكين نموذج مختلف.
نقلا عن الاقتصادية
( لكنها وجدت في توجهات القيادة التركية الأيدولوجية نزعات وتدخلات مكلفة في عدة دول وتشتت البوصلة الاقتصادية، فتركيا ليست كوريا، لكن أقرب إلى أولويات النموذج الإيراني التوسعية ) !!!. اعتقد انه من الاجحاف مقارنة تركيا العلمانية بايران الكهنوتية !!. ...حتى بالطموحات التوسعية ....