تواجه صناعة الطاقة العالمية عوامل جديدة مهمة، بدأت تترك بصماتها على بروز عالم طاقة جديد بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. وتكمن أهم عوامل عالم الطاقة الجديد في المؤشرات التالية:
أولاً: النضوج التقني لبدائل الطاقة المستدامة، وتزامنه مع شيوع الاهتمام الشعبي والحكومي بالتغيرات المناخية والبيئة النظيفة، لتقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لقد أدى هذا التفاعل إلى تمكن تطوير إنتاج الطاقات المستدامة من الرياح والشمسية في توليد الكهرباء بكلفة أقل من كلف الإنتاج التقليدي للكهرباء، وأيضاً طرق التعامل مع المستهلك، من خلال استعمال عدادات مركزية وطرق جباية غير مباشرة.
من الجدير بالذكر أنه قد تضاءل بالفعل استخدام المنتجات البترولية لتوليد الكهرباء منذ الربع الأخير للقرن العشرين. وقد بدأت مؤخراً تزداد وتيرة التغيير هذه بتقليص الاعتماد على المنتجات البترولية في توليد الكهرباء، والولوج نحو الطاقات المستدامة الصديقة للبيئة النظيفة. وخير مثال على عملية التغيير هذه، هو الاهتمام باستعمال الغاز كوقود في المحطات، والتطور التكنولوجي للطاقات المستدامة، وتبني شركات النفط العالمية الكبرى إنتاج وتحسين تقنيات هذه الطاقات وتقليص كلف الإنتاج. وهذا ما نقرأه بالفعل في التقارير السنوية الأخيرة لشركات «بريتش بتروليوم» و«توتال» و«رويال داتش شل» وغيرها من الشركات العملاقة.
ومما وفر الزخم لهذه الحركة والتغييرات، هي التشريعات القانونية لكبرى المناطق الصناعية في العالم لتشجيع تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، من جهة، وسرعة تقدم التطور التكنولوجي من ناحية أخرى. ومما يلفت النظر، ازدياد عدد مشروعات الطاقات المستدامة في عديد من الدول المنتجة للبترول نفسها: النرويج والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى عدد متزايد من دول العالم الثالث، بالذات المغرب. وهناك طبعاً الاعتماد المتزايد لاستعمال الطاقات المستدامة في الدول الصناعية، مثل الصين؛ حيث التخوف من التلوث البيئي في المدن الكبرى، هذا ناهيك عن دول السوق الأوروبية التي أخذت المبادرة في منع أي انبعاثات مضرة من الوقود بحلول عام 2035، وطبعاً الولايات المتحدة التي ترددت خلال السنوات الأربع الماضية في تشريع القوانين اللازمة لتقليص التلوث؛ بل وانسحبت من اتفاقية باريس للتغيير المناخي عام 2015. وسيتبين بشكل واضح أكثر ما إذا كانت واشنطن ستستمر في سياستها البيئية المحافظة هذه، بعد معرفة نتيجة الانتخابات الرئاسية، شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إذ يُتوقع استمرار السياسة المحافظة في حال فوز الرئيس ترمب بالانتخابات، بينما يُتوقع عودة بايدن إلى سياسات الرئيس أوباما الداعمة للحفاظ على البيئة التي حفزت واشنطن في حينه للتوقيع على اتفاقية باريس للمناخ.
وهناك طبعاً متغيرات أخرى مهمة متوقعة في السياسة الأميركية في حال فوز المرشح الديمقراطي بالرئاسة، كما تدل على ذلك مؤشرات الرأي العام؛ رغم ضرورة التريث للتأكد من صحتها، بعد إخفاقها في توقع النتيجة الصحيحة قبل أربعة أعوام عندما فاز ترمب على هيلاري كلينتون بالرئاسة؛ وكانت مؤشرات الرأي العام قد توقعت العكس في حينه.
لماذا الاهتمام بالدور المستقبلي للطاقات المستدامة في قطاع إنتاج الكهرباء أو تحلية المياه؟ هذا في الوقت الذي يتم فيه الاستهلاك الأكبر والأضخم للنفط في وسائل المواصلات؛ إذ إن معظم الوقود الذي يتم حرقه الآن في محطات الكهرباء هو الغاز. والسيارة الكهربائية أو الهجينة لا تزال في بداية الطريق. والتغيير الأساسي في صناعة النفط هو عند إحلال السيارة الكهربائية محل السيارة التقليدية بشكل واسع. ورغم أن تقنية إنتاج السيارة الكهربائية قد أصبحت متوفرة، وأن هذه السيارة متوفرة في عديد من طرق العالم، فإن الأبحاث لا تزال قائمة على قدم وساق لتطوير التقنية، بالذات الإمكانية الاستيعابية للطاقة في البطاريات الجديدة. وكذلك تقليص نفقات إنتاج السيارة الحديثة للتنافس مع السيارة القديمة. وقد وصل سعر بعض السيارات الكهربائية إلى مستوى السيارات القديمة نفسه، أي بضعة آلاف من الدولارات، وأقل من 10 آلاف دولار للسيارة الحديثة في الولايات المتحدة. لكن لا تزال هناك عقبة توفير محطات الوقود والآلات الاحتياطية بشكل واسع ومنتشر في عديد من الدول، الأمر الذي لا يزال ينتظر انتشار السيارة الكهربائية بشكل أوسع لكي يصبح من الممكن تنفيذه.
هناك فرق مهم في الصناعة النفطية خلال هذه الفترة عن عقد السبعينات؛ حيث الارتفاع المفاجئ والسريع في سعر النفط، من بضعة دولارات تقل عن أصابع اليد الواحدة إلى عشرات الدولارات للبرميل في نهاية عقد السبعينات. فقد دلت المؤشرات في أوائل السبعينات على سرعة استنفاد الاحتياطي النفطي الأميركي من جهة، وعلى استمرار زيادة الطلب العالمي على النفط، الأمر الذي حفز بعض أعضاء منظمة «أوبك» للدفع بزيادة الأسعار وحتى للمقاطعة أثناء حرب 1973. أما الآن، فالوضع يختلف. فالولايات المتحدة، بفضل اكتشاف النفط والغاز الصخري قد انضمت إلى مجموعة أكثر ثلاث دول منتجة للنفط، ومن الدول الغازية الكبرى في الوقت نفسه. كما أن الطلب على النفط في تقلص مستمر. فقد كانت الزيادات الكبرى للطلب على النفط خلال عقد التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي، عندما كان استهلاك الصين يزداد بمعدلات سنوية قياسية بلغت نحو 8 في المائة سنوياً. أما الآن فقد تغير وتقلص الاستهلاك النفطي السنوي الصيني، في الوقت نفسه تقلص الاستهلاك النفطي الأوروبي والأميركي اللذان شكلا في حينه أعمدة وركائز الاستهلاك النفطي العالمي. وكما هو معروف، حل محلهما الاستهلاك الكبير في وسط وشرق آسيا. وعالمياً، تأثر الطلب على النفط سلباً بجائحة «كورونا». ومن غير الواضح حتى الآن مدى تأثير الجائحة على الطلب في المديين المتوسط والبعيد؛ إذ من غير المعروف مدى تغير بعض التقاليد البشرية، مثل كثافة الإجازات وعقد المؤتمرات.
شكل اكتشاف النفط الصخري معضلة لصناعة النفط العالمية. فاكتشاف هذا النفط الجديد هو في أميركا الشمالية، وبالذات في الولايات المتحدة، أكبر سوق مستهلكة للنفط، والتي كانت سابقاً أكبر سوق مستوردة للنفط والغاز في العالم. كما أدى اكتشاف الكميات الضخمة من النفط والغاز الصخري إلى اكتفاء الولايات المتحدة بإمداداتها الداخلية الجديدة، فأصبحت دولة مكتفية ذاتياً بالوقود. وهو ما كانت ترمي إليه - كدولة كبرى - منذ عقد السبعينات.
وأدى تغيير ميزان العرض والطلب العالمي هذا، وتأثيره المتقلب على سعر النفط الخام، إلى عقد تحالف قوي بين السعودية وروسيا لقيادة مجموعة «أوبك+» المتكونة من نحو 24 دولة منتجة، لتحقيق استقرار الأسعار من خلال التأكد من توازن العرض والطلب باستمرار (وتطلب الدولتان الرئيسيتان لمجموعة (أوبك+) من بقية الدول الأعضاء الالتزام بالحصص الإنتاجية التي التزمت بها).
تضطر بعض الدول المنتجة خلال هذه الفترة إلى تقليص الإنتاج للالتزام بحصصها الإنتاجية. وتأتي هذه الظاهرة الجديدة بغلق الإنتاج في وقت زيادة الإمدادات العالمية والمشكلات الداخلية والسياسية التي تواجهها هذه الدول، من نزاعات داخلية وفساد مستشرٍ وسوء إدارة البلاد، ومقاطعة وحصار على الصادرات النفطية، والاعتماد الواسع على النفط في غياب تنويع اقتصادات البلاد (العراق، وإيران، وليبيا، ونيجيريا، وفنزويلا).
نقلا عن الشرق الأوسط