ذكر الأصمعي أن رجلاً ببغداد ظل عاطلاً لم يجد عملاً يرتزق منه، حتى وقع الطاعون ببغداد، فَعُرضَ عليه أن يعمل مُحْصياً لعدد الموتى ببغداد على باب المقبرة، فوافق فرحاً.
قال الأصعمي:
فجلس الرجل أمام باب المقبرة وبجانبه كوز، وكومة من الحصا الصغيرات، فكان كلما دخلوا بميت باب المقبرة رمى حصاة في الكوز.
فلما كان بعد ثلاثة أيام جئنا إلى المقبرة نريد أن ندفن صاحباً لنا هلك بالطاعون، فلم أجد ذلك الرجل بجانب الكوز، وإنما وجدت رجلاً آخر يقوم بعمله، فسألته:
أين فلان الذي كان يعمل هنا؟
قال:
في الكوز!
فهذا الرجل ظلَّ عاطلاً طول عمره، وحين جاءته فرصة عمل جاءت معها بسريع الأجل.. وانطبق عليه «من حفر حفرة لأخيه...»..
وإذا كان هذا الرجل ارتزق من إحصاء الموتى، فإن هناك في العصور الغابرة، وربما حتى الآن، مَنْ يرتزق من خَصْي المواشي والبشر حين كانت تجارة الرقيق سائدة، ويصف لنا الجاحظ كيف كان يعمل ذلك الذي يقوم بخصي البشر فيقول:
«.. وأمَّا خَصَاءُ الناس فإنّ للخاصي حديدة مُرْهَفَة مُحْمَاة، وهي الحاسمة، وهي القاطعة، بها يقطع القضيب والخصيتين..
وبعض الذين يُراد خصيهم إذا رأى الحديدة المرهفة المحماة تقلّصتْ إحدى خصيتيه من فرط الفزع، فتدخل في بطنه رُعْباً، فللخاصي ظُلْمٌ ما بعده ظلم، لأنه عند ذلك لا يحفل بفوت المتقلص، ويقطع ما ظهر له، فإذا برئ المجبوب ذو البيضة الواحدة فقد تركه لا امرأة ولا رجلاً ولا خصياً، وهو حينئذ ممن تخرج لحيته، وممن لا يدعه الناس في دورهم، فلا يكون مع الخصيان مُقَرَّباً مكرماً، وخصيب العيش مُنَعّماً، ولا هو إذا رُمي به مع الفحول كان له ما للفحول من لذة غشيان النساء، ومن لذة النسل والتمتع بشَمِّ الأولاد، فلم يزل عند الفحول مستضعفاً محتقراً، وعند الخصيان مُجَرّحاً مُطّرحاً، فلا أعلم قتلة - إذا كان القتل قتلة صريحة مريحة - إلا أصغر عند الله تعالى وأسهل من هذا المظلوم، من طول التعذيب..
والله تعالى بالمرصاد..».
٭ ٭ ٭
٭ وذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» أنَّ رجلاً كان فقيراً فزوَّج أُمَّهُ فأخذ مهرها وأَيْسَرَ به، فقيل ذلك لأعرابي فقال:
أعوذ بالله من بعض الرِّزق!!
٭ ٭ ٭
٭ وذكر صاحب العقد الفريد أن رجلاً خطب من قوم فسألوه:
وما هي صناعتك؟
فقال:
اتّجر في الدواب..
فزوجوه، فلمَّا كان بعد الزواج بان لهم أنه يبيع القطط، فطلبوا منه أن يُطَلِّق ابنتهم فرض، فرفعوا أمره إلى القاضي وقالوا إنه خدعنا زعم أنه يتجر في الدواب واتضح أنه يبيع القطط فقط، فقال الرجل:
لم أخدعهم ولم أكذب عليهم، أليست القطط من الدواب؟
فقال القاضي: بلى، معك حق.. ولم يفسخ النكاح..
٭ ٭ ٭
وبعض الأعمال التي يرتزق منها الإنسان فيها خطرٌ شديد على حياته، قال ابن المقفع في كتاب «كليلة ودمنة»:
(خمس نفر المالُ أحبُّ إليهم من أنفسهم:
1 - المقاتل بالأجرة (المرتزقة بالتعبير الحديث).
2 - وراكب البحر للتجارة (قبل تطوير وسائل الأمان في المراكب الحديثة).
3 - وحافر الآبار العميقة.
4 - والمدل بالسباحة المفاخر بها.
5 - والمخُاطر على السم (يبدو أن هذه مهنة كان يرتزق منها بعض المخاطرين فتُجْرَى عليهم التجارب الطبية كالفئران والأرانب الآن)..
٭ ٭ ٭
والشاعر يعجب من «الحجّام» فهو يجرح الناس ويأخذ رزقاً على هذا الجرح:
يأخذ من مجروحه أَرْشَهُ
فيا لَهُ من جارح مستثيب
وعلى أي حال فإن كل عمل شرف لصاحبه ما لم يكن محرماً، والناس يحتاجون لكل عمل، ويخدم بعضهم بعضاً:
الناسُ للناس من بدو وحاضرة
بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خَدَمُ
وقد ورد في كتاب محاضرات الأدباء (2/462) أن الحجَّامين ببلدة «قم» غضبوا من كثرة الاستهزاء بهم فأضربوا عن العمل واجتمعوا وخارجوا خارج البلد حتى طالت شعور أهلها (وكان الحجام هو الحلاق أيضاً) فاضطروا إلى أن خرجوا إليهم وقبَّلوا الأرض بين أيديهم وحلفوا لهم أن لا يؤذوهم ولا يستهزئوا بهم.. فرجعوا..!
٭ ٭ ٭
ويقول الراغب الأصفهاني:
حضر الفرزدق مجلساً فيه بلال بن بردة فأخذ بلال يفخر فخراً شديداً بأبيه حتى تأذى الفرزدق فقال: لو لم يكن لأبيك من المنقبة إلا أنه حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بلال: ولكنه ما حَجَمَ أحداً قبله ولا بعده، فقال الفرزدق: أبوك والله كان أفضل من أن يتعلّم الحجامة في رسول الله صلى الله عليه وسلم!
٭ ٭ ٭
٭ وقال الأصمعي:
وجدتُ رجلاً يكنس كنيفاً فقلت له:
ما الذي دفعك إلى هذا؟!
فقال:
حتى لا احتاج إلى لئيم مثلك!
فأخرسني!
٭ ٭ ٭
وإذا كان معظم الشعراء العرب القدماء يسترزقون من مدح الولاة والخلفاء، فإن هناك بعض الشعراء البائسين الذين لا يستطيع الواحد منهم الوصول إلى خليفة أو أمير، فيكتفي بالاسترزاق من زملائه الشعراء، وهم يعطونه إما رغبة أو رهبة، أو عطفاً..
ومن هؤلاء الشعراء البائسين «أبو الشمقمق» الذي عاش في العصر العباسي الثاني، وهو عصرٌ ذهبي في تاريخ الأدب كان فيه شعراء عمالقة أمثال أبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد وأبي العتاهية وغيرهم، هؤلاء الشعراء العمالقة حجبوا الشعراء الصغار أمثال أبي الشمقمق عن الوصول إلى مقام الخلفاء والولاة فاضطروا إلى العيش على هامش الحياة، فليس لهم صناعة يتكسبون منها، وشعرهم لا يؤهلهم للحصول على النوال من علية القوم، لهذا اضطر أبو الشمقمق إلى الاسترزاق من إخوانه الشعراء ولكن عن طريق إرهابهم وإخفاتهم بلسانه، وهو يعلم أنهم لن ينزلوا بمقاماتهم إلى هجاء مثله، فكانوا ينفحونه ببعض النقود بين الحين والآخر، ولكنها بالطبع نقود هزيلة لأنها نتاج «شحَّاذ من شحاذ» فكان أبو الشمقمق - بحق - صعلوكاً ليس له بيت ولا مركوب.. في بيته يقول:
بَرَزتُ منَ المنازل والقباب
فلم يعسرْ على أحد حجابي
فمنزلي الفضاءُ، وسَقْفُ بيتي
سماءُ الله أو قطَعُ السحاب
فأنت إذا أردتَ دخلت بيتي
عليَّ، مُسَلِّماً من غير باب!
لأني لم أجدْ مصْرَاعَ باب
يكونُ منَ السحاب إلى التراب!!
وفي مركوبه يقول:
أَتُرَاني أرى من الدهر يوماً
لي فيه مطيِّة غير رجْلي؟!
وإذا كنتُ في جميع فقالوا
قَرِّبُوا للرحيل قَرَّبْتُ نَعْلي
حيثما كنتُ لا أُخَلِّفُ رَحْلاً
مَنْ رآني فقد رآني ورَحْلي!
وله مع بشار بن برد قصصٌ عجيبة، كان يشحذ من بشار تحت تهديد السلاح (شحاذ ومعه عصاه) أما سلاحه أو عصاه فهو لسانه، كان يُهَدِّد بشاراً أن يهجوه أمرَّ الهجاء، وكان بشار لا يريد الدخول في مهاجاة مع شاعر مغمور، كما أن أبا الشمقمق كان حاد اللسان جداً، بذيء الألفاظ حقاً، وفوق هذا كان بشار بن برد كريماً فعلاً، ولعلها الخصلة الوحيدة الطيبة في بشار..
وكان أبو الشمقمق يتجسس على بشار فإذا عرف أنه عاد من خليفة أو أمير بعطاء لبد له عند عتبة بيته، بيت بشار، أما أبو الشمقمق فليس له بيت، فإذا جاء صاح به:
هَلُمَّ الجزية يا أبا معاذ!
فيضحك بشار ويُعطيه ما تيسر، يكون بشار قد أخذ من الخليفة عشرة آلاف درهم فيُعطي أبا الشمقمق مئة درهم ويرضى هذا كل الرضا ويذهب سعيداً كأنه كلب قد أُلْقي إليه بعظم!
وفي ذات مساء عاد بشار من الخليفة فرحاً وصرته في يده مليئة بالدراهم والدنانير، وقد علم أبو الشمقمق بذلك فانتظره على عتبة بيته كالعادة، فلما أقبل بشار نهض أبو الشمقمق وعينه في الصرة وقال:
هَلُمَّ الجزية يا أبا معاذ!
فاغتاظ بشار وقال:
ويحك!.. أَجزْيَةٌ هيَ؟!
فقال:
هو ما تسمع!!
قال بشار:
فلماذا أُعطيك؟!
فأجاب:
كي لا أهجوك!
فقال بشار:
أنت أفصح مني؟!
قال:
لا..!
قال:
فأعلم مني بمثالب الناس؟!
قال:
لا..!
قال:
فأشعر مني؟!
قال:
لا..
فقال بشار:
إذن إن هجوتني هجوتك..
(وأطبق على الصرة الذهبية بكلتا يديه)
فغضب أبو الشمقمق وقال:
كذا هو؟!
فقال بشار مُتَحدِّياً:
نعم فقل ما بدا لك..
فقال أبو الشمقمق بأعلى صوته:
إني إذا ما شاعرٌ هَجَانيهْ
ولجَّ في القول له لسانيَهْ
أدخلتْهُ في «...» أُمِّه علانيه
بشارُ يا بشارُ يا ابن..
فوضع بشار يده على فم أبي الشمقمق قبل أن يُكمل لأنه عرف ماذا سيقول، وخاف بشار وقال يداري خوفه:
قاتلك الله يا أخي يا أبا الشمقمق، أَمْزَحُ معك وتُصَدِّق؟!
ثم دفع له مائتي درهم.. وعندما أراد هذا أن يولي ككلب ظفر بعظم قال له بشار:
لا يسمعنَّ هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق!!
فلم يرد عليه!
٭ ٭ ٭
وحَدَثَ بعد زمن أن عمّ الكساد ببغداد وقَلَّ العطاء فضاقت الحال بأبي الشمقمق فوق ما هي ضائقة أصلاً وبلغ السيل الزَّبى فجاء إلى بشار يستعطيه رغم أنه يعلم أنّ بشاراً لم يُعْطَ شيئاً منذ فترة طويلة..
دخل أبو الشمقمق على بشار وسأله أن يعطيه وحلف له أنه ما عنده شيء يأكله..
فقال بشار:
وأنا والله مثلك!
ثم فكر وقال:
قُمْ معي يا أبا الشمقمق إلى عقبة بن سلم أستعطيه لي ولك!
فقام معه فَذَكَرَ له أبا الشمقمق وقال:
هو شاعر وله شكر وثناء وقد جار عليه الزمان!
فأمر له عقبة بخمسمائة درهم، فمدحه بشار مرتجلاً بقوله:
يا واحدَ العُرْب الذي
أمسى وليسَ له نظيرُ
لو كانَ مثلك آخرٌ
ما كان في الدنيا فقيرُ
فأمر لبشار بألفي درهم..
فعاد الشحاذان ومع كل منهما صرة، فقال أبو الشمقمق:
نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ!!
فجعل بشار يضحك..
نقلا عن الرياض
هههههه..ابو الشمقمق تحفة
أسعدني هذا المقال ...شكرا أستاذ عبدالله الجعيثن