ارتفعت أهمية اتخاذ كثير من الإجراءات والتدابير اللازمة لرفع معدل التوطين في سوق العمل المحلية، ولأجل خفض معدل البطالة بين المواطنين والمواطنات، قياسا على النتائج التي أظهرتها النشرة الأخيرة لإحصاءات سوق العمل المحلية بنهاية الربع الثاني من العام الجاري، كان من أبرز ما كشفت عنه ارتفاع معدل البطالة إلى 15.4 في المائة (8.1 في المائة للذكور، 31.4 في المائة للإناث)، إضافة إلى ارتفاعه بالنسبة لحملة الشهادات الجامعية بكالوريوس إلى 21.3 في المائة، وللشريحة العمرية 20 - 24 عاما إلى 35.4 في المائة، إضافة إلى ما سبق استعراضه في المقال السابق "قراءة تطورات سوق العمل المحلية للربع الثاني 2020" من تطورات مهمة.
كل ذلك يؤكد ضرورة العمل وفق منظومة متكاملة من جميع الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص، لتنفيذ إجراءات أكثر سرعة وجرأة، يؤمل معها أن يتحقق لنا جميعا عامل التفوق على ما يواجهه الاقتصاد الوطني من انعكاسات نتجت عن انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19، وعمت بآثارها السلبية الاقتصاد العالمي بأسره، ما دفع كثيرا من دول العالم إلى انتهاجها كثيرا من السياسات والبرامج الاستثنائية، اقتضتها المرحلة الراهنة من حياة المجتمعات حول العالم، كانت المملكة سباقة في هذا المضمار، بصدور الأمر الملكي الكريم مع أول بداية الجائحة العالمية، القاضي باستثناء العاملين السعوديين في منشآت القطاع الخاص المتأثرة بتلك الجائحة من المواد: الثامنة، العاشرة، الـ 14 من نظام التأمين ضد التعطل عن العمل، ومنح الحق لصاحب العمل عوضا عن إنهاء عقد العامل السعودي أن يتقدم إلى المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بطلب صرف تعويض شهري للعاملين لديه بنسبة 60 في المائة من الأجر المسجل في التأمينات الاجتماعية لمدة ثلاثة أشهر (تم تمديده لاحقا)، بحد أقصى تسعة آلاف ريال شهريا، وبقيمة إجمالية تصل إلى تسعة مليارات ريال، وعدد المؤهلين للاستفادة من التعويض يتجاوز 1.2 مليون عامل سعودي.
في المرحلة التي يواجه خلالها الاقتصاد الوطني تراجعا في النمو الحقيقي له وصل إلى 7.0 في المائة بنهاية الربع الثاني 2020، وتراجعا بنسبة أكبر للقطاع الخاص وصلت إلى 10.1 في المائة خلال الفترة نفسها، ما يشير إلى ارتفاع صعوبات توفير وظائف جديدة خلال هذه المرحلة غير المواتية، ما يدعو بكل تأكيد إلى الأهمية القصوى للتركيز على سياسة إحلال الوظائف كأول وأهم الخيارات المتاحة خلال هذه الفترة، وهو الخيار العملي الحقيقي الأقل تكلفة والأعلى عائدا مقارنة ببقية الخيارات الأخرى، كما أنه الخيار الأسرع جلبا للنتائج الملموسة على مستوى رفع معدل التوطين، وخفض معدل البطالة على حد سواء، ولتحقيق وترجمة هذا الخيار على أرض الواقع، وجني ثماره في الأجلين القصير والمتوسط، سيكون من الأهمية اتخاذ وإقرار عديد من التدابير الحازمة جدا، وما تتطلبه بالضرورة من ارتفاع عال جدا لدرجات الالتزام من قبل الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص كافة دون استثناء.
يتشكل خيار إحلال الوظائف المأمول إنفاذه وتطبيقه خلال المرحلة الراهنة من عدد من الإجراءات، من أهمها: (1) إيقاف استقدام العمالة الوافدة لمدة عامين مقبلين لمصلحة الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص على حد سواء، وإن اقتضت الحاجة عند نهاية هذه الفترة، يمكن تمديد العمل بإيقاف الاستقدام حسبما تقتضيه الحاجة حينئذ ووفقا لما يستجد من مؤشرات لسوق العمل المحلية، على رأسها مستوى معدل البطالة في نهاية الفترة.
(2) إقرار برنامج توطين الوظائف العليا والقيادية والتنفيذية في مختلف منشآت القطاعين الحكومي والخاص، ووضع مسار زمني إلزامي لا تتجاوز فترة اكتمال تنفيذه سقف عامين مقبلين (نهاية 2022)، تتم جدولة تحقيقه وإنجازه حسب مختلف نشاطات تلك المنشآت، وهو البرنامج الذي طالما أثبتت أوضاع وتطورات سوق العمل المحلية الحاجة الماسة إلى إقراره خلال العقد الزمني الماضي في ظل معدلات نمو الاقتصاد الوطني، وفي ظل معدل بطالة بين المواطنين أدنى بكثير مما أصبح ماثلا أمام الجميع، وتؤكد المرحلة الراهنة ارتفاع أهميته والعمل به على وجه السرعة، وأن على جميع منشآت القطاعين الحكومي والخاص الالتزام به، وترجمته على أرض الواقع داخل كل منشأة من تلك المنشآت.
إنها خيارات قد يصفها كثيرون بالقساوة، التي ستكون لها آثار عكسية على عديد من النشاطات الاقتصادية، إلا أن تلك الآثار العكسية مهما بلغت وجاهة نظر أصحاب تلك التبريرات والحجج تظل أدنى بكثير في جميع الأحوال من الآثار المحتملة عن ارتفاع معدل البطالة إلى المستوى الذي وصل إليه، بل قد يشهد مزيدا من الارتفاع، إن لم يتم اتخاذ مثل هذه الحلول الاستثنائية المؤقتة، التي اقتضى العمل بها ما حملته المرحلة الراهنة من تحديات جسيمة جدا جثمت أمام جميع اقتصادات العالم، لا اقتصادنا الوطني فحسب، وضرورة الاعتماد على ما يتمتع به من موارد وإمكانات وفرص تكاد تكون معدومة تماما لدى كثير من الاقتصادات الأخرى حول العالم، التي ترتقي إلى أن يعتمد اقتصادنا الوطني عليها كأحد أهم الخيارات المتاحة في ظل هذه الظروف غير المواتية على الجميع في شتى بقاع المعمورة.
ختاما: لطالما كتب NOURIEL ROUBINI أكثر من مرة في عديد من مقالاته: "إن السياسات التنظيمية المتساهلة تفضي إلى الأزمات المالية والركود". وهذا فعلا ما أثبتته تجارب كثير من الاقتصادات طوال العقود الماضية، ما يعني بالضرورة أنه يمكن القول: إن السياسات التنظيمية الحازمة لن تفضي إلى الأزمات المالية والركود، بل ستدفع بالاقتصاد نحو الاستقرار والنمو المطرد.
نقلا غن الاقتصادية