يشهد العالم ارتفاعا في سقف توقعات الناس لما يقدم إليهم من خدمات ورعاية صحية. في الوقت نفسه تشهد تلك الرعاية تحديات كبيرة على رأسها تزايد تكاليفها والطلب عليها، خاصة في نوعيته، مقرونا بتزايد التقنية والمتطلبات وتزايد نسبة المتقاعدين والمعمرين من السكان.
المشكلات السابقة زادت أهمية النقاش حول تمويل راسخ للرعاية الصحية وما أنسب السبل له، موضوع طرح ويطرح بقوة في مختلف المجتمعات والدول، ومنها دولتنا طبعا. وتزيد قوة طرحه مع مرور الأعوام، تضمن برنامج وزارة الصحة لتطوير القطاع الصحي في وثيقة عنوانها "الدليل التعريفي ببرامج التحول الوطني في القطاع الصحي" مؤشرات أبرزها زيادة حصة القطاع الخاص من الإنفاق من خلال طرق تمويل بديلة، وتحسين كفاءة وفعالية وحوكمة القطاع الصحي.
يرتبط بموضوع التمويل مسألة بالغة الأهمية وهي الاستدامة المالية، في ظل تحديات اقتصادية كثيرة. وتبعا، تعمل الوزارة على التركيز على الإشراف على القطاع. أما الرعاية نفسها فالفكرة في وجود شركة حكومية قابضة بها وحدات عمل، وتتبعها شبكات من الشركات الحكومية الصحية. وفي برنامج التحول الصحي يؤسس مركز التأمين الصحي الوطني، بهدف تعميم التأمين الصحي مع الوقت.
من الأفكار الأخرى التوسع في مشاركة القطاع غير الربحي. هذا التوسع يشمل مستشفيات ومراكز وجمعيات ومراكز أبحاث صحية غير ربحية، ووقفا صحيا، ومتطوعين. باختصار مشاركة مجتمعية.
موضوع التأمين الصحي طويل عريض. ويشكل التأمين الصحي الخاص من وجهة اقتصادية، وبعيدا عن جانب الحكم الشرعي، فرصا ومخاطر. هو بلا شك يسهم مساهمة قوية في توفير خدمات صحية لكثيرين، خاصة لفئة بأمس الحاجة. وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى مزيد توضيح. لكن هذا التوفير مشوب بمشكلات في التأمين الصحي وغيره. مثلا، يواجه قطاع شركات التأمين عامل ضعف الثقة بأداء الشركات نتيجة عوامل تاريخية سابقة.
في المقابل، يسهم التأمين الخاص غالبا في ارتفاع تكاليف الخدمات الصحية ويولد تحديات. وهذه نقطة بحثت على مدى أعوام طويلة. وأجريت عليها دراسات كثيرة. من تلك الدراسات واحدة بالغة التفاصيل شهدتها إبان دراستي في أمريكا للمقارنة بين الرعاية في المستشفيات الحكومية والخاصة في بلاد غربية. خلاصة الدراسة تختصر في العبارة التالية "الفحوص للمريض عادة أو غالبا أقل من اللازم في المستشفى الحكومي وأكثر من اللازم في الخاص".
من الحلول أن تكون شركات التأمين حكومية، أو أضعف الإيمان إنشاء بنية تأمين حكومية تنافس شركات التأمين الخاص. هذه البنية تمشي على أسس تشغيل اقتصادية لكنها لا تستهدف الربح، فهي بهذا تشبه مؤسسات التقاعد. ولها أن تتلقى دعما حكوميا لسد النقص في الربح. ولا شجار في ذلك، فالدعم وإن كان حكوميا، لكنه لشركة حكومية.
وهناك مشكلة أخرى: توفير الرعاية الصحية للمتقاعدين. دول كسنغافورة تفرض اقتطاعا من الراتب للتأمين الصحي بعد التقاعد. وهذا الاقتطاع خلاف الاقتطاع للمعاش التقاعدي. وزادت سنغافورة الإنفاق على الرعاية الصحية في الأعوام الأخيرة نتيجة شيخوخة القوة العاملة لديها، ومواجهة الحكومة ضغطا سياسيا لتخفيف الحمل عن فقراء الدولة، وتدعم الدولة بعض النفقات الطبية، ويتحمل المرضى تكاليف أعلى إذا اختاروا خدمات متميزة، في حين يستخدم المواطنون المدخرات الإلزامية المخصصة من رواتبهم الشهرية لمتطلبات الرعاية الصحية.
كون "الفحوص للمريض عادة أو غالبا أقل من اللازم في المستشفى الحكومي وأكثر من اللازم في الخاص"، لا تؤخذ هكذا بمعزل عن تفاصيل أخرى. مثل مقارنة طريقة معاملة الطبيب ماديا في المستشفى الحكومي والخاص وسياسة شركة التأمين في الدفع ومستويات الأطباء وحدود المادية في المستشفى الخاص ونحو ذلك. كما أنه لا يمكن أن يستنتج منها أن النتيجة (حصول العافية من المرض) في المستشفى الخاص بالضرورة أفضل من المستشفى الحكومي أو العكس فهناك عوامل أخرى يجب أن تراعى.
من المهم الانتباه إلى نقطة جوهرية في أي مناقشة تحويل خدمات صحية حكومية بالطريقة التقليدية لتعمل وفق نظام شركة. مع زيادة السكان وجهود وبرامج السعودة وبرنامج التحول الوطني وبرامج تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على الإنفاق الحكومي الممول من صادرات النفط، فإن المحصلة تعني زيادة الحاجة إلى خدمات طبية خاصة.
العادة أن شركات التأمين لا تدفع التكلفة كاملة، محاولة منها لتقليل إساءة استخدام التأمين. وقدرت الدراسة التالية لأحد أساتذة جامعة هارفارد:
Privatizing health care is not the answer: lessons from the United States, Marcia Angell, MD
أن حجم الممتنعين في أمريكا عن الاستفادة من التأمين بسبب التكلفة يزيد من حيث النسبة كثيرا على الموجود في كندا. ونظام الرعاية الصحية في أمريكا معتمد على القطاع الخاص أكثر كثيرا من كندا. وذكرت الدراسة نفسها أن معدل توقع الأعمار في كندا أعلى من أمريكا. وقالت الدراسة: إن الأمريكان يزورون الأطباء بصورة أقل ويقضون أوقات أقل في المستشفيات مقارنة بالكنديين. لكن تكلفة الخدمات الصحية في أمريكا أعلى من كندا بالنسبة للفرد مقابل خدمة أقل.
حاولت دراسات شرح لماذا الوضع هكذا، خاصة ما قالته دراسات بأن نظام الرعاية الصحية الأمريكي أقل كفاءة less efficient مقارنة بالكندي. وترجع الدراسات السبب إلى أن الخدمات الصحية الأمريكية القائمة أساسا على القطاع الخاص، تعامل تلك الخدمة كما تعامل أي سلعة وخدمة تجارية أخرى، بدلا من اعتبارها خدمة ذات طابع اجتماعي.
أختم الحديث بتجربة دون تعليق. كان مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي في الرياض، الواقع قرب الوزارات على طريق الملك عبدالعزيز، أي: المطار القديم، قبل عشرات الأعوام يتبع وزارة الصحة، وكان يتقاضى رسوما مخفضة على الخدمة، تغطي جزءا من التكلفة.
نقلا عن الاقتصادية
الحديث عن خصخصة القطاع الصحي حديث شائك ( كيف يمكن الموائمه بين نهم القطاع الصحي الخاص للمال - المستشفيات وشركات التأمين - وبين حاجات المواطن للعلاج كشئ اساسي كاحتياج الماء والهواء ) .!! بالذات العلاج لاينفع معه الا التأمين التكافلي . والله اعلى واعلم .
من العناصر المهمة التي على الدولة تشجيعها قيام مؤسسات صحية خيرية ليس بالضرورة ان تكون مجانية بالكامل والبلد يعج بمئات المليارديرات.