مصيدة الدخل المتوسط والصناعة

08/09/2020 2
فواز حمد الفواز

لفتت نظري ورقة بحثية صدرت بالتعاون بين فرع البنك المركزي الأمريكي في سانت لويس، وجامعة صينية مرموقة للاقتصادي ي ون، ومساعده للي وانق، بعنوان: "الهروب من مصيدة الدخل المتوسط .. مقارنة بين الدول في نماذج التطوير الصناعي". نظرا لأهمية الورقة رأيت مراجعتها في أكثر من مقال، خاصة أنها تقدم طرحا نظريا مختلفا موثقا بالتجارب العالمية، وقد تكون مهمة في البحث عن طرح جديد حول الصناعة في المملكة ودورها في تحقيق تنمية اقتصادية أفضل. تبدأ الورقة بنقد لنظريات التنمية الاقتصادية التي سيطرت على السرد الاقتصادي، ومن ثم تأخذ الصين كمثال على إعادة اختراع العجلة التنموية منذ 1978 بعد تجربة مريرة في التصنيع بين 1949 و1978. تعرف مصيدة الدخل المتوسط مقارنة بدخل متوسط الفرد الأمريكي، فالدخل المتوسط بين 15 في المائة و50 في المائة من الدخل الأمريكي، دول مثل البرازيل والبيرو وتركيا، ودول أخرى في مصيدة الفقر بدخل أقل من 10 في المائة من المستوى الأمريكي وأحيانا أقل من 5 في المائة مثل بعض الدول الإفريقية والعربية.

الإشكالية ليست في المستوى بقدر مدة فشل المحاولات، فمثلا البرازيل تحاول منذ أكثر من 80 عاما وتركيا منذ نحو 60 عاما. النمو الاقتصادي هو المفتاح الحقيقي للحاق بالدول المتقدمة. لتوضيح حجم التحدي، تحتاج بعض الدول المنخفضة الدخل إلى أكثر من 170 عاما حتى لو استطاعت أن تنمو 5 في المائة لكل الفترة، نسبة نمو أعلى من أمريكا عند 3 في المائة. تحتاج بعض الدول من 60 إلى 80 عاما إذا استطاعت تحقيق نمو بنسبة تصل إلى 11 في المائة، أي 8 في المائة أعلى من نسبتها في أمريكا.

هذه الاختلافات في الأداء قادت إلى نقد موضوعي لنظريات التنمية والنمو الاقتصادي ودور الصناعة خاصة في التسلسل التصنيعي. سيطرت على الطرح الاقتصادي ثلاث نظريات أثبتت التجربة العملية مدى فشلها. الأولى، ما يسمى "إجماع واشنطن" الذي ينادي بدور مركزي لسياسات السوق والتخصيص ومن ثم تحقيق الديمقراطية امتدادا لسياسة نضج السوق في تحقيق تقدم اقتصادي وارتفاع متوسط دخل الفرد، حيث عملت دول كثيرة اقتداء بنصيحة المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) مثل بعض دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ودول أمريكا الجنوبية.

والثانية التخطيط المركزي الذي يبدأ بالصناعات الثقيلة والحد القاسي من دور السوق مثل الصين قبل إصلاحات 1978 والاتحاد السوفياتي السابق ومن دار في فلكه. والثالثة ما ينطوي تحت مسمى النظريات المؤسساتية الجديدة التي يجمعها الحد من دور السياسة في استغلال المقدرات وأن الحل في الحكم الديمقراطي وحماية الحقوق الخاصة وتقليص دور الحكومة مثل باكستان ومصر وتونس وتايلاند وأوكرانيا. لكن هناك تجارب نجاح دون الأخذ بهذه النظرية مثل ألمانيا من 1850 إلى الحرب العالمية الثانية، وروسيا من 1860 إلى 1917، وحديثا كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والصين حققت نجاحا بسبب دور حكومي تدخلي فاعل مبني على فهم دور التسلسل التصنيعي من ناحية ومركزية الصناعة في تحقيق التنمية من ناحية أخرى. بل إنها أعادت اكتشاف تجربة النهضة الصناعية في بريطانيا واليابان. هناك درجات من التطابق بين هذه النظريات ما يفتح فرصة لغير المتابع الدقيق للتخبط الفكري والعملي.

طبقا لجستن لن رئيس فريق الاقتصاديين السابق في البنك الدولي هذه النظريات لم تنجح. يقول، إن مفتاح التنمية الاقتصادية في اقتصاد السوق هو تكوين سياسات صناعية بتسهيلات حكومية واضحة، ولكن لا بد للسياسة التصنيعية أن تكون تسلسلية وتعتمد على تقدير موضوعي للمعطيات والمقومات المجتمعية المادية والبشرية والتنظيمية، بهدف الوصول إلى شركات وطنية تستطيع المنافسة الدولية، إذ في الأخير لا بد من القدرة على تصدير منتجات وطنية لكي تتمكن من استيراد منتجات الآخرين. التنمية المستدامة تعتمد على سياسة صناعية تراهن على الميزات النسبية في رتابة مع المعطيات الموضوعية مثل الصناعات الخفيفة التي تعتمد على توافر العمالة. القفز إلى الصناعات الثقيلة وشديدة الاعتماد على رأس المال لم تثبت نجاحا في ميدان المنافسة العالمية وفي الاختلاف عن تجربة الدول التي حققت نجاحا اقتصاديا مستداما من بريطانيا قبل قرنين إلى كوريا قبل ثلاثة عقود والصين اليوم. في الأسابيع المقبلة نستعرض بقية التأطير النظري والتجربة العملية المقارنة، ومن ثم نحاول استخلاص ما قد يناسب التجربة الوطنية.

 

نقلا عن الاقتصادية