تتعامل ألمانيا بحرص شديد حينما يتعلق الأمر بإنفاق الأموال، وفضلاً عن أن هذه الصفة لا تجعل صاحبها قطعاً موضع ترحيب وإعجاب، فقد انتقلت العدوى الحكومية للشعب فبات مهووساً بالادخار المفرط، حتى وصل الأمر بالبنوك الألمانية للإعلان مطلع العام الجاري بأنها تعاني "مشكلة الغني"، بحيث أنها لم تعد لديها مساحة كافية لتخزين مدخرات نقدية بنحو 43.4 مليار يورو (47.6 مليار دولار)، وأنه يتعين العثور على خزائن خارجية، الأمر الذي أثار انتقادات دولية واسعة من "البخل الألماني" المتمثل في حيازة فوائض مالية قياسية دون الاستفادة منها في دعم الاقتصاد العالمي، في ظل هوس برلين المدمر بالجمع بين الميزانيات المتوازنة وصادراتها الهائلة، والتي تولد وفرًا مفرطًا يتطلب وفق منتقدين استثماره في الخارج، حيث تشدد دولاً كبرى على أن ألمانيا بحاجة إلى أن تبسط يدها من أجل معالجة انعدام التوازن في الاقتصاد العالمي.
تماماً مثل معظم جيرانها، تعرضت ألمانيا لأذى كبير بسبب الطوارئ الصحية التي خلفت دماراً اقتصادياً
هائلاً، وهي تواجه أسوأ ركود في تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية، مع ارتفاع معدلات البطالة وانهيار الصادرات وناتج الصناعات التحويلية، بينما يسود مزاج قاتم بين قادة الصناعة في العالم، ومع ذلك فإن الأشهر الثمانية من العام الجاري، أثبتت قدرة الاقتصاد الألماني على العودة التدريجية للانتعاش بسبب التعامل بحرفية مع الجائحة، مقارنة بشركائها الأوروبيين والولايات المتحدة.
يعد "الإنفاق بسخاء" كلمة السر التي ميزت سلوك الحكومة الألمانية خلال الأزمة الراهنة، خلافاً لما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية في عام 2008، فقد اعتمدت برلين حزمة تحفيز مالي بقيمة 130 مليار يورو (145 مليار دولار) أي نحو 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي على مدى عامين (2% في 2008)، بالإضافة إلى التحويلات المباشرة للشركات والموظفين التي بدأت أثناء الإغلاق؛ مما جعل الاستجابة للجائحة تبلغ 13.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهكذا بدأت ملامح زيادة الإنفاق تظهر في سماء أكبر اقتصاد أوروبي بعد سنوات من الانتقادات الشديدة.
ويعني هذا، أن هناك محاولة تجرى الآن لتصحيح الاقتصاد الألماني، خاصة على مستوى إخراج ما تحت البلاطة والانعتاق من شرنقة الادخار المفرط، وهو ما
سيحقق فوائد كبيرة للشركاء التجاريين، فإذا اشترت الأسر والشركات والقطاع العام في ألمانيا أكثر، فسيزيد الطلب على السلع الأجنبية المستوردة من الخارج، وهذا الإنفاق الكبير لن ينعش الاقتصاد الألماني فقط، ولكنه سينعش أيضاً الدول المرتبطة به استيراداً وتصديراً، وبتنشيط الواردات إلى ألمانيا وتعزيز الاستثمارات، ستكون حزمة التحفيز بداية لتصحيح أوجه عدم التوازن الاقتصادي القائمة منذ فترة طويلة داخل الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، فإن حزمة التحفيز المالي كانت ضرورية لمعالجة مشاكل هيكلية في الاقتصاد الألماني، إذ تتضمن خطة الإنفاق مبادرة للتحول إلى اقتصاد صديق للبيئة، وتحسين البنية التحتية للصحة والتعليم، وتحفيز الأبحاث في جوانب تمتد من الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمية، وتخفيف الاختناقات الهيكلية أمام الاستثمارات العامة عبر توفير المزيد من الفوائد الاجتماعية التي كانت تدفعها البلديات، وهذا الأمر سيحرر الكثير من الأموال في المناطق الفقيرة التي كانت عازفة عن الاستثمار في الماضي.
ربما تكون حزمة التحفيز إيذانًا بتحول هيكلي أوسع في أكبر اقتصاد أوروبي، بعيدًا عن الإدمان على التصدير، إذ تعتزم إنفاق أكثر من 7 مليارات يورو (8 مليارات
دولار) على البنية التحتية لاتصالات الجيل الخامس والأبحاث، وهناك تسعة مليارات (10 مليارات دولار) أخرى مخصصة لتمويل صناعة الهيدروجين، مع تخصيص ملياري دولار للاستثمار في الخارج، كذلك ترفع الخطة الحدود القصوى لدعم للطاقة الشمسية وزيادة التمويل لتطوير شحن الغاز الطبيعي المسال، إلى جانب الأولويات الأخرى وأبرزها الأمن السيبراني والصحة والتعليم والتسليح.
وبما أن كل شيء تفعله ألمانيا يعطي المثل والقدوة لأوروبا، فقد شجع إنفاقها التحفيزي الدول المجاورة على توسعة جهودهم المالية، وكانت ضربة البداية من التوافق على خطّة تعافي أوروبية مشتركة بقيمة 750 مليار يورو (855 مليار دولار) وميزانية منتظمة للاتحاد الأوروبي لمدة سبع سنوات بقيمة 1.074 تريليون يورو، وقد يؤدي هذا التغيير الاقتصادي المفاجئ في ألمانيا إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الأوروبي برمته ليصبح بعد انتهاء الجائحة أكثر لمعانا وبريقاً من ذي قبل.
خاص_الفابيتا