أعلنت المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، قبل أيام قليلة، إطلاق مشروع له أهمية بالغة للمجتمع. والأهمية أكثر على المدى البعيد. المشروع متميز وخطط له من مدة، وسبق أن طرحت اقتراحات بشأنه في هذه الصحيفة.
تعمل المؤسسة على فتح أكثر من 100 برنامج تدريبي جديد في 63 معهدا في مختلف مناطق المملكة في الفترة المسائية بدءا من الفصل الأول المقبل. وهذه البرامج قصيرة لا تتجاوز مدة الواحد فصلا تدريبيا. وهي موجهة لمختلف شرائح المجتمع في تخصصات فنية متنوعة، منها: الحاسب الآلي والإنشاءات المعدنية والكهرباء الصناعية والرسم المعماري والإلكترونيات وصيانة الجوال وغيرها. التسجيل في هذه البرامج بدأ. وسيحصل المتدرب على شهادة إتمام برنامج تدريبي معتمدة من المؤسسة. وفي هذا أكد الدكتور أحمد الفهيد، محافظ المؤسسة، حرص المؤسسة على الاستثمار الأمثل لمنشآتها بالفترة المسائية.
ما المتوقع تحقيقه من هذه البرامج؟
توقعات عديدة أهمها نشر ورفع ثقافة ومستوى المهارات والأعمال التقنية والمهنية في سوق العمل وأوساط المجتمع، وإتاحة الفرصة للراغبين في مواصلة مسارهم التدريبي. وكل هذا يسهم في زيادة ملموسة وقوية في اعتماد المجتمع على نفسه في أداء الأعمال المهنية. وتبعا لهذا سيقل اعتمادنا على الاستقدام كثيرا. هذا الاعتماد المبالغ فيه كانت بدايته عقد السبعينيات الهجرية الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، حتى أصبح وجود السعودي المهني عملة نادرة.
من باب التنبيه، كلامي خارج نطاق شركات وأجهزة حكومية كـ"أرامكو" و"التحلية"، وخارج نطاق المهنيين الجامعيين تدريبا وتوظيفا. وهذا ليس لأنه لا توجد مشكلات في تدريب أو توظيف بعضهم، لكن المقال خاص بموضوع بعينه، والمقام لا يسمح بتوسيعه.
باختصار، متوقع من هذه البرامج نشر الثقافة المهنية وتقليل العطالة. لكنها، طبعا، ليست الأداة الوحيدة للتقليل، حتى لا يساء فهم كلامي.
إن من أهم مشكلات سوق العمل السعودية المبالغة في الاعتماد على الوافدين. مبالغة ترسخت وتأقلم الناس عليها على مدى عشرات الأعوام. وساعدت على هذا الترسيخ عوامل كثيرة سأذكرها لاحقا. وهذا الترسخ أحد عوارض فتنة النفط، أو ما يسميه البعض بالإنجليزية oil curse.
فتحت عبر عشرات الأعوام أعداد هائلة من المحال والمنشآت. وأغلبها معتمد على الاستقدام، لأن الأوضاع شجعتها عليه أعني الاستقدام. والإنسان بطبيعته محب للمال. بعض المنشآت تتكسب من الاستقدام بطرق نظامية وبعضها عن طريق ما يسمى التستر. ومع الأعوام ترسخت ثقافة الاستقدام، واتسعت دائرة الاتكالية على غير السعوديين. وحيث إن الحديث عن الجانب المهني، فإن تدريب السعوديين على المهن والأعمال المهنية التي لا تتطلب تعليما جامعيا كان مهملا أو قليلا.
العوامل المتسببة في حصول ما حصل كثيرة. وأتوقع أن القراء الأفاضل لا يجهلونها. هذه العوامل كثيرة، وأرى أن ما يهمنا منها ما يلي:
1 - ثقافة وعادات مجتمع لا تخفى على القراء. 2 - فتنة نفط أو إدمان عليه من جراء الحصول على دخل بسهولة دخل النفط. 3 - سهولة استقدام نسبيا على مدى عشرات الأعوام. 4 - فقد تدريب. 5 - نظام إقامة ما يسمى عرفا كفالة الذي أعطى صاحب العمل سلطة على موظفيه غير السعوديين لا يملكها على السعوديين. وتضافرت هذه المعوقات جميعا لتنتج الوضع القائم. واستمرار هذا الوضع عقبة كبيرة في نجاح جهودنا لتقليل اعتمادنا على النفط.
ومن المهم التأكيد أن نظرة الدونية للعمل المهني والحر في نظرة لا تتفق مع نظرة ديننا إليه. فالإشارات إلى الكسب والعمل في القرآن والسنة كثيرة جدا، أذكر منها ما رواه البخاري - رحمه الله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
لم يعد ممكنا استمرار الوضع السابق. وليس من الحكمة استمراره. الاستمرار يعني بقاء إدمان النفط بتعبير ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ونشر التدريب المهني وسيلة قوية لمكافحة هذا الإدمان. ذلك أن دخل النفط المرتفع غير مضمون استمراره. والسكان في تزايد، ووظائف أجهزة الحكومة لا تكفي الأكثرية.
زادت أهمية التدريب المهني مع الأحداث الأخيرة. نعرف أن جهود مكافحة انتشار كورونا وما تبعها نتج منها مغادرة أعداد كبيرة من الوافدين، وإغلاق أو تقليص أنشطة كثيرة في القطاع الخاص.
لا أحد يعرف بالضبط متى يذهب الفيروس، عجل الله بذهابه، وعافى الجميع آمين. لكن سيعاد فتح محال وأنشطة كثيرة بعد ذهاب الجائحة، ومع نمو الاقتصاد. وتبعا لذلك، متوقع بقوة أن تحل طفرة توظيف. وهنا فرصة كبيرة لنتعلم من أخطاء الماضي.
علينا خلال الأعوام المقبلة التوسع القوي في تدريب أعداد كبيرة من الشباب وإكسابهم خبرات في الأعمال المهنية دون المستوى الجامعي، وتسهيل فرص توظيفهم. ومن متطلبات نجاحنا في تحقيق هذه الأهداف ألا تتاح الفرصة لاستقدام أعداد كبيرة بديلة عن الذين غادروا من الوافدين. إن خطوة المؤسسة بداية موفقة. والأمل كبير في توسيع هذه الخطوة.
نقلا عن الاقتصادية