جرت العادة على تقسيم الدول اقتصاديا إلى متقدمة ونامية. ويحصر كثيرون بالأولى حيازة محركات للنمو الاقتصادي. ولا يتحقق التقدم الاقتصادي دون محركات. ويحصرون مسمى دول منتجة بها. وجرت العادة أيضا على أن التسمية بدولة صناعية ودولة متقدمة تعني الشيء نفسه. وهنا يترسخ في الذهن عادة ربط التقدم الاقتصادي بالتقدم الصناعي دون غيره.
الكلام السابق لا ينبغي التسليم به هكذا. ومحاولة لتقليل سوء الفهم، من المهم التنبيه على أن المشكلة ليست في أصل المسمى بل في الحصر. الصناعة التحويلية هي أساس الإنتاج فيما يسمى الدول المتقدمة، وبالأخص في ماضي الدول المعتبرة عريقة وليست حديثة عهد في التقدم الاقتصادي. لكن أن يستنبط من ذلك حصر الإنتاج والتقدم الاقتصادي بالصناعة التحويلية وتطورها فهذا غير مسلم به. كان للحصر معنى قبل عشرات الأعوام. لكن الأوضاع تغيرت مع التطورات.
الأساس السابق، أعني الصناعة التحويلية ما كان له أن يحدث دون متطلبات بشرية وغير بشرية. أهم أو من أهم هذه المتطلبات البشرية توافر ابتكار ونشاط وتقدير للجهود وحماية لها وثقافة وسياسات منحازة عمليا تجاه ما يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة. ولا بد من تمويل للأنشطة البشرية. وتوافر الموارد يسرع من ذلك.
ماذا بشأن المتطلبات غير البشرية؟ توافر نِعم - بكسر النون - أي طيبات موارد كونية طبيعية تتيح المجال لتحقيق ونجاح المتطلبات البشرية. وليس بإمكان أي مجتمع أو دولة تحقيق أي تقدم دون توافرها. وفي هذا المعنى وردت آيات قرآنية أذكر منها:
يقول تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (إبراهيم: 32 - 34)
وحادثة كورونا تزيد القناعة بقيمة الموارد وسلامتها في خدمة البشر.
نفهم من الكلام السابق أن الصناعة التحويلية وسيلة وليست هي الغاية بنفسها. لا شك أنها وسيلة قوية. لكن حصر الوسائل بها صعب قبوله وعليه علامة استفهام كبيرة. ومن جهة أخرى، ندخل في مشكلة مسميات تتكرر باختلاف الظروف، بمعان ومفاهيم متنوعة مختلفة توقع في اللبس وسوء الفهم والاستنتاج.
مشكلة المسميات تظهر بوضوح في تعريف إنتاج وناتج production and product. في التعريف الذي يعطى في مبادئ الاقتصاد يتعلم الطالب أن كلمة إنتاج واسعة المعنى. إنها تطلق على كل ما يفعل بدنيا أو ذهنيا أو بكليهما، لظهور سلعة أو خدمة، تبذل للآخرين في السوق بمقابل مادي. وتعريف الناتج المحلي الإجمالي GDP يطبق على جميع الدول. ما هذا التعريف؟ قيمة كل السلع النهائية والخدمات المعترف بها محليا التي يتم إنتاجها في دولة ما خلال فترة زمنية محددة. وتدرس لطلاب الاقتصاد ضمن مفردات الاقتصاد الكلي.
من المهم بيان أن كلمة ناتج ليست المعبر عن المعنى تماما، لكنها الأقرب إليه من الكلمات المتاحة في اللغة. ذلك أنه لا يوجد تقريبا من لديه المقدرة على فعل كل ما يتطلبه إظهار سلعة أو خدمة من العدم إلى وصولها إلى المستهلك النهائي. المزارعون مثلا يستعينون بآخرين لأداء أعمال متنوعة قبل وخلال وبعد نضج منتجات مزارعهم. من هؤلاء الآخرين من يوفرون احتياجات للمزرعة وسائقين لنقل ما أنتج المزارعون إلى الأسواق. والأسواق مستويات ومراحل، وتحتاج إلى خدمات متنوعة، وكل خدمة تحتاج إلى عاملين لأدائها. ودون هذه الخدمات تفشل الزراعة. وهكذا أنشطة الاقتصاد كلها.
هل هؤلاء الناس الذين يخدمون المصانع أو المزارع لكنهم لا يعملون في الصناعة أو الزراعة هم غير منتجين؟ لا طبعا بل هم منتجون. وهنا مزيد بيان.
في تبويب الهيئة العامة للإحصاء للناتج المحلي الإجمالي، تستخدم الهيئة العامة للإحصاء التصنيف الوطني للأنشطة الاقتصادية ISIC4. وهو تصنيف منبثق عن التصنيف الدولي الموحد لجميع الأنشطة الاقتصادية بتنقيحه الرابع ISIC4 الصادر من المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة.
هذا التصنيف مبوب في عشرة أنشطة. ولنا أن نركز على ثلاثة من حيث الحجم والأهمية ومناسبتها لـ "رؤية 2030" وللمقال: 1 - النفط والغاز و 2 - الصناعة التحويلية و3 - الخدمات بمختلف أشكالها وأنواعها.
لا يمكن للقطاعات الأخرى أن تعمل دون الخدمات. وهي مدخلات للصناعة وإنتاج الموارد الطبيعية كالنفط. وهي مؤثرة بلا شك في مستوى التطور والإنتاج والأسعار النهائية للصناعة. وتحسن إنتاجية الخدمات يصنع فرصة لانعكاس هذا التحسن إيجابيا على قطاع الصناعة وغيره من القطاعات. هل يحدث هذا الانعكاس؟ ليس بالضرورة. فهذا يعتمد على مدى جودة الاستفادة من المدخلات.
وكثير من الأنشطة التي لا تعد صناعية، بل يعدها البعض خدمية، هي حقيقة تحوي جزءا فيه تصنيع بالمعنى الأصلي للتصنيع. المخابز والطباعة وكثير من التجهيزات لأنشطة متنوعة أمثلة.
وتشكل الخدمات في أي اقتصاد نسبة كبيرة من الناتج المحلي، النصف تزيد أو تنقص قليلا. وهي الموظف الأكبر في العادة.
من المهم تطوير الخدمات بما يجعلها محركا قويا لتطوير الصناعة التحويلية ونمو الاقتصاد وتعميق تنويعه. تنوع الخدمات بما يجعلها قادرة على توليد فرص استثمارية متنوعة الحجم والنوعية. ويمكن تصدير بعض الخدمات أو جعلها تقلل تقليلا واضحا من خروج أو هجرة أموال من البلاد. من الأمثلة الخدمات المتعلقة بالطيران والنقل والصيانة والترفيه والثقافة والفندقة والخدمات المالية. ولا شك أنه مطلوب رفع مستوى هذه الخدمات. وهو أمر موضع اهتمام "الرؤية". وتوافر الموارد المالية يسهل من التعجيل بالرفع. والتحدث بتفصيل في هذا يتطلب مقالات.
حوت "الرؤية" عدة برامج ذات طبيعة خدمية. من هذه البرامج: تطوير القطاع المالي، والتخصيص، وريادة الشركات الوطنية، والخدمات اللوجستية، وخدمة ضيوف الرحمن، وتنمية القدرات البشرية. والأمل معقود - بإذن الله - على تحقق أهداف "الرؤية" لما فيه خير العباد والبلاد.
نقلا عن الاقتصادية