يتخوف كثير من علماء الاقتصاد من حصول ركود أو انكماش تضخمي عالمي بعد زمن ليس ببعيد. وبشأن تعبير انكماش تضخمي، فهو ترجمة للمصطلح Stagflation المركب اختصارا من كلمتين الأولى stagnation وتعني الجمود أو الضعف، والأخرى inflation وتعني التضخم.
وعلى هذا فمصطلح Stagflation يعني جمود أو انكماش الاقتصاد مصحوبا بتضخم. هذه الصحبة خلاف الأصل. إذن ما هذا الأصل؟ الانكماش يجر إلى نزول أو جمود الأسعار لا ارتفاعها. ذلك أن الانكماش يتبعه مزيد تعطل في الموارد واليد العاملة. ويتبع زيادة التعطل انخفاض الطلب والأجور والتكاليف، خاصة اليد العاملة. وهذه الانخفاضات تضغط على الأسعار. ودرءا لسوء فهم البعض، من المهم التنبيه على أن الكلام عن المتوسط العام، وليس عن سعر كل سلعة، أو عن تشابه قوة النزول بين الأسواق أو السلع النازلة أسعارها، فلكل سلعة وسوق ظروف مشتركة مع غيرها وظروف خاصة بها.
حقيقة العالم يمر حاليا بحالة ضعف أو كساد اقتصادي. وما جرى في العالم من تخفيف جزئي في القيود وفتح الأسواق يؤدي إلى تعاف جزئي خلال وقت قد يصل إلى عامين. أما استكمال التعافي ليرجع النشاط الاقتصادي وغير الاقتصادي، كما كان قبل الأزمة، فيتطلب وقتا مشابها بعد رفع القيود كليا. ورفع القيود كليا مرتبط بتطور الظروف والأحوال التي لا يحيط بها علما إلا الله - سبحانه -، ومنها مستوى ووقت النجاح في تطوير التطعيم وتوفيره.
ومعروف أن الخوف من انتشار المرض ما زال موجودا. وهذا مؤثر في سلوك نسبة كبيرة من المستهلكين عبر خفض الإنفاق. ثم ماذا؟ عند ظهور أخبار مؤكدة لتطوير لقاح وتوجه نحو تخفيف كامل للنشاط الاقتصادي، فمن المتوقع جدا حصول اندفاع في الاستهلاك بعد تراجعه زمنا وهذه طبيعة البشر الفطرية. وهذا الاندفاع سيجلب الغلاء، لأن تعافي العرض الذي أضعفته القيود، يتطلب وقتا. وقد تتبنى دول زيادة رسوم وضرائب فترة مؤقتة لتخفيف الاندفاع الاستهلاكي.
وساعدت العولمة في الماضي على تخفيف حدة التضخم في العالم، نظرا لانفتاح أسواق الدول على بعض. وهو انفتاح ساعدت عليه التطورات التقنية. لكن العالم يشهد الآن موجة شعبية ضد العولمة، وما بين الصين وأمريكا من نزاع تجاري مثال واضح.
وهناك عوامل تساعد على توقع الاندفاع في الشراء. من هذه العوامل حوافز مكافحة آثار الإغلاق. الدافع الأول لهذه الحوافز ليس دعم العرض والنمو الاقتصادي، بل دعم الطلب بغرض تخفيف الضرر المعيشي عن كثيرين، نتيجة العطالة وضعف أو فقد الرزق وغير ذلك.
اتخذت الحكومات والبنوك المركزية في العالم سياسات لتخفيف تلك الأضرار. ولنا أن نلخصها في ثلاث نقاط:
1. ضخ سيولة وخفض معدلات الفائدة.
2. برامج مالية عامة داعمة، مثل منح قروض ميسرة، وإعفاءات، وأنواع دعم نقدية أخرى.
3. زيادة الإنفاق الحكومي على قطاعات وبرامج مختارة.
وهنا يلاحظ أمران: الأول، أن التركيز في أغلب الدول على دعم الطلب.
والآخر، أن البرامج المتبناة مصدر تمويلها غالبا ديون عامة. ذلك أن ضعف النشاط الاقتصادي وانخفاض دخل وربحية القطاع الخاص من حيث المتوسط العام، يضعفان إيرادات الدول من الضرائب والرسوم. كما أن هناك دولا تبنت سياسات لدعم الطرفين معا العرض والطلب. وكانت سياسات بلادنا من هذا النوع. وساعد على تبني هذه السياسات توافر احتياطيات كبيرة للدولة، بحمد الله، وكون الوافدين يشكلون أغلبية اليد العاملة في القطاع الخاص، ما يخفف مشكلة العطالة في البلاد.
والدول التي ركزت على دعم الطلب رغم أنه يصنع بيئة مواتية لارتفاع الأسعار، ينطبق عليها المثل العربي "مكره أخاك لا بطل". الامتناع عن دعم الطلب له ضرر أشد من ضرر ارتفاع الأسعار. ومن ثم، فإن المسألة ليست الامتناع عن دعم الطلب لكن في جودة تقديمه.
من جهة أخرى، فإن بعض القطاعات والأنشطة تتطلب أعواما حتى تعود إلى سابق مجدها. حتى القطاعات التي تعمل جيدا نسبيا حاليا لا تخلو من مشكلات. فمثلا، يواجه القطاعات المالية ضعف عام حتى قبل جائحة كورونا، نتيجة تدني الفائدة وعوائد الأصول وضعف نمو الاقتصاد العالمي. وهذه المشكلات متوقع أن تكون أكثر حدة هذا العام مع كورونا وتبعاته.
طبعا بعض القطاعات التي حصلت على قروض أمامها وقت حتى تتمكن من العودة إلى مستوى الربحية، ما يعني تأخرها في سداد ديونها وبعض التزاماتها الأخرى. وهذا يزيد العبء على السلطات بمنح تسهيلات تزيد القدرة المالية لهذه القطاعات.
من جهة أخرى، تزيد الأزمة الحالية على المدى القصير إلى المتوسط "عامان إلى خمسة أعوام" ما يسمى الميل نحو الابتعاد عن المخاطر risk aversion لدى جزء كبير من القطاع الخاص، ما يعني انخفاض استثمارات القطاع الخاص. وأخذا في الحسبان انخفاض نسبي في توظيف واستغلال اليد العاملة تأثرا بما حدث، وأن العالم شهد ارتفاعا في التكاليف فالأسعار لا يوازيها نمو في الاقتصاد وارتفاع في دخول الناس، فمن المتوقع استمرار ذلك عالميا، مع خلافات بين الدول في المستوى.
على صعيد آخر أيضا، يرى كثير من علماء الاقتصاد أن العصر الذهبي لتحفيز النمو بالسياسات النقدية، كخفض سعر الفائدة، هذا العصر انتهى أو كاد ينتهي. فقد استنفذت السياسات. وبدلا من ذلك، يقترح بعض علماء الاقتصاد زيادة الإنفاق الحكومي الاستثماري. هذا المسلك سيسهم في زيادة العرض، ورفع معدلات الفوائد الحكومية.
نقلا عن الاقتصادية