أطلق صندوق النقد الدولي على الأزمة الاقتصادية الحالية الناتجة عن تفشي فيروس كورونا بـ "الإغلاق الكبير" في تعبير مشابة للكساد الكبير الذي حدث عام 1929م. ويتوقع الصندوق بأن الركود الحالي سيكون الأسوء منذ ثلاثينات القرن الماضي، حيث يتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 3 في المئة خلال العام الحالي. هذا الإنكماش قد يعمل على إتساع تفاوت الدخل (Income Inequality) بين الدول وداخلها على نطاق واسع بسبب تعطل الحياة الاقتصادية بشكل كامل. هذا الإتساع قد يعمل على إبطاء سرعة تعافي النمو الاقتصادي خصوصاً في الدول التي تعاني من تفاوت شديد في الدخل. يتناول هذا المقال موضوع تفاوت الدخل وكيف إن الأزمة الحالية قد تعمل على توسيع الفجوة في متوسط دخل الأفراد داخل المجتمع الواحد.
تفاوت الدخل
يُعرف تفاوت الدخل بأنه درجة التباين في توزيع الدخل بين مجموعة من الأفراد والذي يقاس عادة بمعامل جيني (Gini Coefficient) والذي يتراوح بين الصفر والواحد. ويعتبر الصفر مؤشراً للمساواة في دخول أفراد المجتمع الواحد، بينما يشير الرقم واحد إلى ارتفاع التفاوت. تعتبر قضية تفاوت الدخل من القضايا الهامة التي شغلت صُناع القرار منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي. فبالإضافة إلى الفقر والبطالة، شّكلت قضية معالجة التفاوت في توزيع الدخل أحد الركائز الأساسية لعملية التنمية الاقتصادية المستدامة لما لها من إنعاكسات سلبية على الاقتصاد وخلق مشاكل اجتماعية وسياسية.
بناء على نتائج فرضية كوزنتس، فأن التفاوت في توزيع الدخل يُعتبر نتيجة اقتصادية طبيعة تتلاشى مع التقدم الاقتصادي. ففي المراحل الأولى لتطور الاقتصاد يكون التفاوت في الدخل منخفضاً ثم يتجه بالزيادة حتى يصل إلى أعلى متسوياته ليستقر عند مستوى معين، بعدها يبدأ بالانخفاض في المراحل المتقدمة من النمو الاقتصادي—أي إن العلاقة بين النمو الاقتصادي والتفاوت في الدخل تتمثل منحنى على شكل جرس. وعليه فطالما أن الأنشطة الاقتصادية تعمل بكفاءة وإن أجور الأفراد يتم تحديدها حسب آليات السوق بتفاعل قوى العرض والطلب، فأن التفاوت ليس له أضرار سلبيه على الاقتصاد، "فالمد العالي سيرفع كل القوارب".
في المقابل ووفقاً للنظرية الكنزية يرى البعض بأن التفاوت في الدخل يؤدي إلى انخفاض الطلب الفعّال وبالتالي إلى حدوث تباطؤ في النمو الاقتصادي من خلال التأثيرعلى المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل الادخار، والاستهلاك، والاستثمار الخاص. وعليه فأن التركيزعلى النمو الاقتصادي المستمر والمستدام لن يعمل على تحقيق استقرار اقتصادي مالم يتم تقليص فجوة التباين في الدخل بين أفراد المجتمع. كما جاءت نتائج أغلب الدراسات الاقتصادية التطبيقة لتدعم هذا الرأي.
الأزمة الحالية وتفاوت الدخل
ربما تؤثر هذه الأزمة على درجة تفاوت الدخل في المجتمع من خلال عدة قنوات مختلفة مباشرة أو غير مباشرة. ولكن في هذا المقال سنُركز على أثنيتن فقط: أولاً: إفلاس الشركات.
ثانياً: فقدان بعض الأفراد لوظائفهم. بسبب الإجراءات الإحترازية وسياسات التباعد الاجتماعي التي طبقتها أغلب الحكومات من أجل إحتواء هذا الوباء، توقفت أغلب الأنشطة الاقتصادية. هذا التوقف سيؤثر على التدفقات النقدية التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات في تسيير أمورها المالية. مع جفاف هذه التدفقات قد تتجه بعض الشركات والمؤسسات خاصة الصغيرة منها— التي تعاني من مشاكل في السيوله النقدية ولا تمتلك قدر كافي من الاحتياطيات المالية (ادخار)—إلى تسريح بعض موظفيها لتقليل التكاليف أو الخروج من السوق نتيجة لعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية (الإفلاس)، ومع تسريح العمالة من هذه الشركات سيترفع عدد العاطلين عن العمل، وعليه ستنخفض القدرة الشرائية لهؤلاء الأفراد مما يؤثر ذلك سلباً على الطلب الكلي من خلال الإنخفاض في الإنفاق الاستهلاكي للأفراد.
لتخفيف الأثار السلبية المتوقعة على الاقتصاد، سارعت حكومات الدول بدعم أغلب القطاعات الاقتصادية وتخصيص حزم مالية لدعم الشركات والمؤسسات الكبيرة المتضررة. هذا الدعم المالي لم يشمل أصحاب المشروعات الصغيرة والمهن الحرة. وبالتالي فأن أي صاحب مشروع صغير لن تشمله تعويضات التعطل عن العمل، سيلجأ إلى السحب من مدخراته لتيسير إموره المالية. ومع استمرار تعطل الحياة الاقتصادية، ستنفذ هذه المدخرات ليدخل هؤلاء الأفراد في مشاكل ماليه لانهايه لها.
مع السيطرة على فيروس كورونا وعودة الحياة لطبيعتها تدريجياً سيواجه أصحاب المشاريع الصغيرة صعوبة بالغة في العودة إلى أنشطتهم الاقتصادية بسبب التزاماتهم المالية الكبيرة التي ستخلفها الأزمة الحالية وقد يضطر البعض الخروج من السوق نهائياً. أما العاطلين عن العمل فقد يستغرق عملية الحصول على عمل جديد فترة طويلة. ومع انخفاض متوسط دخل هذه الشريحة من المجتمع سينخفض الطلب على معظم السلع والخدمات التي كانوا يستهلكونها في السابق. سينتج عن هذه العملية تراجع في أهم العوامل والمتغيرات الاقتصادية (الاستهلاك، الادخار والاستثمار) التي تؤثر على العملية الإنتاجية ليدخل الاقتصاد في دوامة الإداء الضيعف يصاحبه نمواً متواضعاً لفترة طويلة. في المقابل لن تستطيع هذه الشريحة من المجتمع أن تعوض ما خسرته من دخلها دون دعم حكومي ليستقر دخلها عند مستويات أقل من ذلك المستوى قبل حدوث الأزمة....وهكذا سيعمل الإغلاق الكبير على توسيع فجوة الدخل.
خاص_الفابيتا