مع أن رعي الأغنام من أشرف الأعمال، حتى إنَّ أشرف وأكرم الخلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم، وقال عليه السلام: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم) فقال أصحابه: وأنت؟ فقال (نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة) رواه البخاري في صحيحه ص516..
أربع سنين وكنَّـها عندي أسبوع وقتي مغير أرعى الغنم في نهاره
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فـكيف إذا الرعـاة لها ذئـاب
-
أقول مع شرف هذا العمل فقد ابتلى الله عز وجل، كثيراً من أهل الحلال في هذا الزمان، ببعض الرعاة الوافدين، الذين لا يحسنون الرعاية، ولا يؤدون الأمانة، ولا يرحمون هذه المخلوقات الضعيفة، ومن هذا الباب ما حدثني به رجل صدوق له قطيع كثير من الأغنام، وضعه في مزرعة ليست بعيدة عن الرياض، وفي منطقة فيها مراعٍ للأغنام، قال: (منذ سنوات وحين سمح بنقل كفالة بعض المتخلفين، ومن لا يحملون الجنسية، ذهبت لمكتب العمل فوجدت رجلاً توسمت فيه الصلاح، يبحث عمن يصحح وضعه، وينقل كفالته، فقلت له: هل تُحسن أن ترعى الغنم؟ فتهلل وجهه وقال:كل الإحسان! وعندي ثلاثة أبناء وبنتان كلهم يرعون الغنم.. يعجبونك غاية الإعجاب! قلت: مرحى لك ومرحباً بك أنت وأبنائك وبناتك! فقال: عندي شرط! قلت: وما هو؟! قال: أن تنقل كفالتهم وتصرف لهم رواتب وتستأجر لنا بيتاً، فوافقت، لأن بقرب المزرعة بيوتاً قديمة رخيصة الإيجار، توكلت على الله ونقلت كفالته هو وأبناؤه وبناته، وسكنتهم وسلمتهم أكثر من ألف طرف، وقلت: الله الله بالرعي الجيد! والرفق بالحلال! إرع بها أنت وعائلتك من الفجر وأعدها إلى حظائرها في المزرعة في المساء! فقال: صار!! أبشر! ما يكون خاطرك إلا طيِّب!
ومضى على هذا أكثر من شهر، وكنت أذهب إلى المزرعة نهاية الأسبوع، وذات يوم مررت ببيت الراعي بعد صلاة المغرب، فوجدت منظراً لم أتوقعه! وجدته هو وعائلته متحلقين حول خروف سمين مذبوح، وحولهم فحم يضطرم، وقدر تفوح، وهم بين من يشوي، ومن يقلي، ومن يقطِّع ما بقي من لحم الخروف، المعلق، ومن يأكل قطع لحم مشوي نصف استواء، وزوجته حول القدر ترمي فيه العظام التي بقي فيها عراش لحم، لتصنع (شوربة طازجة)! فتوقفت قريباً منهم ونزلت وقلت:
-
السلام عليكم!
فضجوا يردون السلام، وقال والدهم:
- تفضَّل كل معنا..!
وكانت رائحة الشواء المُتبل المنضج على الجمر الأحمر يسيل لها اللعاب وتفتح شهية الشبعان!
ورغم أنني كنتُ جائعاً إلاَّ أنني ارتبت في الأمر وأنا أرى جلد الخروف النجدي السمين، فقلت لوالدهم وكبيرهم:
- هل هذا الخروف من خرفاني؟!
فقال بلا اكتراث:
- أكيد! ومن أين نأتي بخرفان في هذا المكان إلا من خرفانك! ومن أين لنا المال؟
فانسدت شهيتي وساءت نفسيتي وقلت:
- ومنذ متى وأنتم تذبحون خرفاني وتأكلونها؟!
فقال ببساطة:
-
منذ جئنا هنا! ولكننا لسنا مسرفين!.. لا نذبح في الأسبوع إلا خروفين! أنا حددت لأولادي هذا العدد ولو طعتهم كان هيمهاي..! وأشار بيده في الفضاء فغضبت وقلت:
-
ومن أمرك بهذا؟!
فقال: ألا تحب لحم الغنم؟!
فقلت: بلى!
قال: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) فطالما كنت تحب لحم الغنم أحبّ لنا ما تحب لنفسك!
فزاد بي الغضب والعجب ومن صفاقة الرجل وجرأته على تفسير النصوص على ما يريد، وقلت:
- فإني أحبُّ أن أسفرك فوراً..!
والعجيب أنه استغرب، وقال:
- ألست مسلماً وأنا ذكرت لك الحديث؟!
فقلت: بلى أنا مسلم والحمد لله، ولكن يبدو أنك لم تفهم الإسلام ولا الحديث الشريف، فما تفعله سرقة وخيانة للأمانة.. وهذا في الإسلام حرام..
-
ولم يظهر أنه فهم أو اقتنع فقد قال:
-
أنت عندك أكثر من ألف خروف! ونحن نرعاهم! فكيف لا نأكل منهم؟!
قلت: يا آدمي أنت تقوم بمهنة الرعي مقابل أجر متفق عليه معلوم، أنا أدفع لك ولأولادك رواتب مقابل الرعي، ولم يكن بيننا شرط ولا اتفاق أن تذبح وتأكل أي خروف، وأصلاً أنا كل أسبوع أرسل لك كرتون دجاج!
وهنا أقبل ابنه الكبير الطويل العريض في يده اليمنى يد الخروف يعرشها، وفي يده اليسرى يد الخروف الأخرى قدمها لأبيه، وهو يهمهم والدهن يسيل من شدقيه:
- كُلْ كُلْ قبل أن يبرد!
فتناول منه يد الخروف وأدخل جزءاً منها في فمه الواسع وأطبق عليها بفكه العريض، وهو ينظر نحوي ويقول بصوت ملغوم يتطاير معه الدهن واللعاب:
- اجلس وكل يا رجَّال!
وأحسست أنني أمام وحش! ولأول مرة تنطبق علي كلمة قالها بخيل من بخلاء الجاحظ: (أصبر الناس من رأى أضراس الناس تأكل من طعامه)! ولم أكن -والله- بخيلاً.. وأكره ما لي البخلاء! ولكن هذا الرجل المتطاول الجاهل أثار غضبي وطيّر صبري فهو يذبح خرفاني بدون إذن مني! وبدون أن يخبرني! وله على هذه العادة أسابيع!، وها هو أمامي هو وذره ينهشون لحم خروفي المسكين المسروق نهش الذئاب!
تنهدت وأخذت نفساً عميقاً ثم قلت: جهّز نفسك وعيالك لمغادرة هذا البيت ومغادرة المملكة! فثار وأصر أن أنقل كفالته، وقال:
- إذا كنت بهذا البخل فلن أعمل عندك من الأصل!
انقل كفالتي!..
وطار الشرر من عينيه فقلت: ما يخالف!.. أنت جهز نفسك وربعك للرحيل ويكون خير.. وبمجرد عودتنا للرياض في الصباح عملت له (خروج نهائي) لا أريد أن أغش به أحداً فيقع له ما وقع لي.. أو أشدّ!
ولسانه يردد
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها
فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
وكنت أرى عند سائق وافد شاباً من أقاربه بين الحين والآخر، ثم لم أعد أراه، فسألته عنه، فضحك، وقال:
- هذا كان يرعى الغنم عند البدو، وكان لعاباً كسولاً، فلاحظ أصحاب الغنم عليها الهزال وضعف الحال فراقبوه من بعيد بواسطة (الدربيل) فرأوه يذهب بالغنم فيجعلها ترعى عشر دقائق ثم يجمعها في حفرة قريبة من المرعى ويستلقي على ظهره يسمع (رادو) معه، ويضرب بعصاه أي خروف أو شاة تريد الخروج من الحفرة!! فلم يكد يعود بعد أن رأوه حتى ضربوه كما ضرب الغنم وسفّروه على الفور..!
قلت: شرُّ البلية ما يضحك، إن كان فيما سبق ما يضحك.. ولكن العبرة هي عدم الاعتماد على الوافدين بشكل تام أو شبه تام! وعدم منح الثقة!، فإن أوَّل ما ينزع من الأمة الأمانة، وآخر ما ينزع الصلاة..
- هذا وقد كان الشعراء يحبون رعاة الأغنام، ويرون -محقين- في حياة الراعي البساطة والنقاوة والبعد عن أذى الناس..
يقول الشاعر الشعبي (عبدالله بن قعيِّد) تغمده الله برحمته:
نزلت مختار بقصر الزباره
اربع سنين وكنَّها عندي اسبوع
وقتي مغير ارعى الغنم في نهاره
وانا وهن في الليل رقاد وهجوع
وغذاي رزّ فيه عينة مراره
ما به يدامات ولا منه منفوع
والذّ عندي من لحمة الفقاره
حيث ثمنه من الجيب نقد ومدفوع
فهو عفيف كريم نفس.. ويقول -رحمه الله- حين أجدبت الأرض:
يا غنم يوم الزمان أخلف وفوقه
صار حاد يكمن على المخلوق حادي
الشجر ظميان يا بستن عروقه
أبشرن نشري لكن عشب وزادي
والمحرّج ما نوصلكن لسوقه
خوف يشريكن ردي ومترادي
لين أشوف المزن مشعلة بروقه
ثم يشبع جلّكن في كل وادي
والله اللي كافل رزق مخلوقه
ما يضيعكن وهو رب العبادِ
وكل شيٍ قدرة الرحمن فوقه
ورحمة الله فوق جدِّي واجتهادي
فانظر رقته مع غنمه ورأفته بهن، رحمه الله، وقد ورد في الحديث الشريف (أن السكينة في أهل الغنم) وهي هنا الطمأنينة وراحة البال.
- ولأبي القاسم الشابي:
اقبل الصبح جميلاً
يملأ الأقعد بهاهْ
فتمطى الزهر والطير
وأمواج الحياه
فأفيقي يا خرافي
وهلمي يا شياه
واتبعيني يا شاهي
بين أسراب الطيورْ
واملأي الوادي ثغاء
ومراحاً وحبورْ
واسمعي همس السواقي
وانشقي عطر الزهورْ
نقلا عن الرياض
هههههههها. أضحك الله سنك