رجح صندوق النقد الدولي في توقعاته الأخيرة، أن يدخل الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري أسوأ ركود له منذ الأعوام البعيدة للكساد الكبير قبل أكثر من تسعة عقود زمنية مضت، وأن يتجاوز في سوء أوضاعه بشكل عام كل ما عاناه من تداعيات مريرة خلال اصطدامه بالأزمة المالية العالمية خلال 2008 - 2009. وخلصت توقعات الصندوق بخصوص النمو الاقتصادي خلال العام الجاري، على افتراض انحسار الجائحة في النصف الثاني من عام 2020 وإمكانية تخفيف جهود الاحتواء بالتدريج، إلى توقعه أن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشا حادا بنحو - 3.0 في المائة، وأن تنكمش الاقتصادات المتقدمة خلال العام نفسه بنسبة أسوأ قد تصل إلى أعلى من - 6.1 في المائة، وانكماش منطقة اليورو بنسبة أسوأ قد تصل إلى أعلى - 7.5 في المائة، فيما سيأتي الانكماش في الأسواق والاقتصادات الناشئة أقل مما سبق بنحو - 1.1 في المائة، وبالنسبة للاقتصاد السعودي بلغت تقديرات صندوق النقد الدولي بانكماشه خلال العام الجاري بنحو - 2.3 في المائة، واعتبرت تلك التقديرات أسوأ بكثير مما نتج عن الأزمة المالية العالمية خلال 2008 - 2009، وطبعا ستسوء التوقعات بالنسبة للنمو الاقتصادي، في حال خرجت الأوضاع عن مسار السيناريو الأساسي أعلاه، وفشلت جهود انحسار الجائحة خلال النصف الثاني من هذا العام، وستصبح بكل تأكيد أكثر صعوبة إذا ما ذهبت إلى السيناريو الثالث الأقوى، المتمثل في امتداد عمر الجائحة حتى النصف الأول من العام المقبل.
وفي ظل السيناريو الأول "افتراض انحسار الجائحة في النصف الثاني من عام 2020"، وما سيتسبب فيه الإغلاق العام الكبير لمختلف أنشطة وحركة الاقتصادات والأسواق، من انكماش شديد للنمو العالمي بتلك المعدلات المقدرة أعلاه، يتوقع أيضا صندوق النقد الدولي تحت ظل هذا السيناريو أن يتعافى الاقتصاد العالمي جزئيا خلال العام المقبل، ويحقق معدلات نمو أعلى قد تصل للاقتصاد العالمي إلى نحو 5.8 في المائة، نتيجة لعودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته، وبفضل الدعم والتحفيز الذي قدمه مختلف السياسات الاقتصادية والمالية، ورغم كل ذلك ظلت نظرة الصندوق متحفظة جدا تجاه مستقبل الاقتصاد العالمي، والتأكيد أن مستوى إجمالي الناتج المحلي سيظل أدنى من الاتجاه العام في فترة ما قبل الفيروس، مع قدر كبير من عدم اليقين حول مدى قوة التعافي، محذرا في الوقت ذاته في حال استمرت الجائحة العالمية، وإجراءات الاحتواء فترة أطول، أو وقع ضرر أكثر حدة على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، أو استمر تشديد الأوضاع المالية، أو إذا ظهرت آثار غائرة واسعة النطاق بسبب إغلاق الشركات واستمرار البطالة، فإن نتائج النمو ستأتي أسوأ بكثير من كل تلك التوقعات السابقة.
المؤكد في خضم تلك التوقعات غير المواتية للأداء الاقتصادي العالمي خلال العام الجاري وما سيليه من أعوام قليلة مقبلة، وتحت ظل السيناريوهات الأساسية التي تفترض انحسار الجائحة في النصف الثاني من عام 2020، وإمكانية تخفيف جهود الاحتواء بالتدريج، وما سينتج عنها من شطب لما يقارب ثلث التجارة العالمية خلال العام الجاري، وأمل كثيرين ألا يتجاوز الضرر الذي لحق بالوضع العام للاقتصاد العالمي ذلك المستوى المقدر من الأضرار الاقتصادية. أعيد أنه بات في حكم المؤكد انكفاء كثير من الاقتصادات على نفسها، سعيا منها إلى الخروج بأقل الخسائر، والعمل سريعا للعودة إلى التعافي وتضميد الجراح الاقتصادية والاجتماعية بأسرع ما يمكن، وهو الأمر الذي سيعيق حدوثه؛ إن لم يمنعه في الأصل، هذا النمط المنفرد المتوقع اتخاذه من قبل دول العالم، فدون تكامل جهود المجتمع الدولي وعودة العلاقات التجارية والاقتصادية إلى سابق عهدها، بل أعلى مما كانت عليه، فهذا بكل تأكيد سيتسبب في عرقلة تحقق أي تطلعات بالخروج من آثار الضربة القاسية التي تركها انتشار الفيروس، وهو الأمر الذي شددت عليه المملكة في أثناء ترؤسها الاجتماع الطارئ الأخير لـ"مجموعة العشرين"، وأن لا مجال لمواجهة أقوى ضد هذه آثار الأزمة الراهنة، إلا بمزيد من التكامل والتعاضد بين جميع دول العالم.
ختاما؛ على المستوى المحلي لاقتصادنا، ما قد يبعث على الاطمئنان إلى حد ما، أن اقتصادنا يتوافر لديه كثير من الاحتياطيات والإمكانات، بحمد الله، التي ستوفر له درجة أعلى من الثقة والاستقرار، مقارنة بغيره من الاقتصادات المماثلة، وهو ما عكسته التقييمات الأخيرة، إضافة إلى الإقبال الكبير على سندات الدين السعودية في السوق العالمية، إلا أن ذلك سيظل محدودا أو مرتبطا بالعمر المقدر لاحتواء هذه الجائحة العالمية، ولو استمرت أطول مما هو مقدر لها حتى تاريخه، فلا شك أن هذا سيحمل معه مزيدا من التحديات، وهو ما لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال، وما يجب أن يتم وضع الاحتياطات اللازمة للاستعداد التام له وللتصدي لأي آثار محتملة منه.
لا تقف ضبابية المستقبل عند حالتنا فقط؛ بل هي حالة شاملة للعالم بأجمعه، وما حمله التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي ليس إلا أحد الدلائل على ترسخ تلك الضبابية، والصعوبة الكبيرة في التنبؤ بما ينتظر العالم بأسره في القريب المقبل، دع عنك ما ينتظره في الأجلين المتوسط والبعيد، وكل هذا يأتي ذكره هنا بالنسبة لنا لأخذه في الحسبان أثناء إعادة رسم وتصميم سياساتنا وبرامجنا الاقتصادية والتنموية عموما، وهي المهمة الأصعب بكل تأكيد على أي جهاز أو فريق عمل مهما تمتع بأي درجة من المؤهلات والخبرات، إلا أنه لا بد من إتمامها بالمتوافر من الإمكانات والقدرات، وصولا إلى أفضل الخيارات الممكنة أمامنا في الوقت الحاضر.
نقلا عن الاقتصادية