أزمة فيروس كورونا الدين العام للحكومات

14/04/2020 0
د. علي بن جاسم الصادق

تشير آخر البيانات الصادرة عن معهد التمويل الدولي بأن مستوى الديون العالمية (الأفراد والحكومات والشركات) وصل إلى 253 تريليون دولار (322 في المئة من الناتج المحلي العالمي) مع نهاية الربع الثالث من عام 2019م.هذا وقد أشار التقرير بأن مستويات الديون أرتفعت بأكثر من 55 في المئة خلال العقد الماضي (منذ إندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008م لغاية عام 2018م). كما توقع المعهد أن ترتفع وتيرة زيادة الدين العالمي خلال العام الجاري 2020م، ليتجاوز 257 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2020م. هذه التوقعات كانت قبل إنتشار فيروس كورونا وتصنيفه  على إنه وباء عالمي. إذن كيف سيكون مستوى هذه الدين مابعد كورونا؟ هذا ما سأناقشه في هذا المقال دون تقديم أي إجابة محددة.

قد ينتج عن أزمة تفشي فيروس كورونا أزمة اقتصادية ستكون تكاليفها على الاقتصاد العالمي أكبر من تلك التي خلفتها الأزمة المالية العالمية لعام 2008م. فخلال تلك الأزمة انخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بما يقارب 4.5 في المئة، وحتى الآن لم تستطيع أغلب دول العالم تجاوز آثارها. في المقابل يتفق الجميع بأن الأزمة الحالية سينتج عنها ركوداً كبيراً قد يصل لمستويات قياسية ستبقى آثارها لفترة طويلة. هذا الركود سيشمل كل القطاعات والأنشطة الاقتصادية. الأمر المختلف عليه حالياً هوحجم ومدة هذا الركود.

من الناحية النظرية عند حدوث تباطؤ في الاقتصاد بسبب انخفاض الطلب الكلي تحاول الحكومة تحفيز الاقتصاد من خلال تطبيق بعض السياسات الاقتصادية المختلفة. ففي بداية الأمر يقوم البنك المركزي—إذا كان لديه حيز نقدي(monetary policy space)—بتخفيض سعر الفائدة (إتباع سياسة نقدية توسعية لزيادة عرض النقود) في محاولة لضخ سيولة في الاقتصاد المحلي لتحفيز الطلب أو خفض تكاليف الإنتاج من خلال تخفيض تكلفة الإقراض والتمويل والذي يعمل على زيادة الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار الخاص. كما يقوم البنك المركزي من إنتهاج سياسية التيسير الكمي (من خلال شراء الأصول المالية من القطاع المالي) عندما تصبح السياسة النقدية التقليدية غير فعّالة (عندما يصل سعر الفائدة الأسمي إلى الصفر). ايضاً قد تقوم الحكومة بإتباع سياسة مالية توسعية تعمل على زيادة الإنفاق والاستثمار الحكومي أو تخفيض الضرائب. حيث تقوم الحكومة بتقديم حوافز مالية لدعم القطاع المتضرر أو قيامها بزيادة الإنفاق الرأسمالي الحكومي لدفع النمو الاقتصادي من خلال المضاعف المالي (العائد على الإنفاق).

الأزمة الاقتصادية الحالية تختلف عن كل الأزمات الاقتصادية التي حدثت في السابق في إنها ناتجة عن "تعطل" العرض وتوقف الطلب في آن معاً بسبب الإجراءات المتخذة من قبل الحكومات للحد من تفشي هذا الوباء. وبالتالي فإن كل السياسات الاقتصادية التقليدية المعلنة من قبل البنوك المركزية والحكومات لن تنفع في تحفيزالاقتصاد، وعليه فأن وقوع كساداً اقتصادياً أصبح أمراً حتمياً. لأن المشكلة ليست شح في السيولة النقدية ولكن بسبب إنعدام الطلب "الاختياري" على معظم السلع والخدمات غيرالضرورية  وتوقف الإنتاج بسبب السياسات الإحترازية (وضع قيود على حركة السكان، وإغلاق الأنشطة غير الضرورية وغيرها) التي فرضتها مختلف حكومات دول العالم  للحد من إنتشار فيروس كورونا.  

هذا التراجع أو شبة التوقف في الأنشطة الاقتصادية ستكون له آثار سلبية على ميزانية الحكومات قد يدخلها في دوامة العجز المالي الكبير. هذه الدوامة سينتج عنها إرتفاع مطرد في مستويات الديون الحكومية، قد يصاحبه عدم قدرة بعض الدول— خصوصا تلك التي لا تملك حيزاً مالياً (Fiscal Space) كبيراً— من الوفاء بالتزاماتها المالية في المستقبل دون الحاجة إلى إعادة جدولة هذه الديون. من المتوقع أن تمر أوضاع الميزانية العامة للحكومات بمراحل مختلفة خلال الفترة القادمة.

المرحلة الأولى. إيرادات حكومية أقل من المتوقع وإنفاق أكبر. ستنخفض الإيرادات الحكومية الضريبية وغير الضريبية بشكل كبير بسبب تعطل الحياة الاقتصادية. فنتيجةٍ لإنخفاض الأنشطة الاقتصادية والتسهيلات الضريبة المقدمة من قبل الحكومات ستنخفض المتحصلات الضريبة بمختلف أنواعها. ومن ناحية أخرى ومع قيام الحكومات بتقديم بعض الإعفاءات المالية على الخدمات الحكومية ستنخفض الإيرادات غير الضريبية. في المقابل سيرتفع الإنفاق الحكومي خلال هذه المرحلة على القطاع الصحي لمعالجة المصابين. كما ستخصص جزء من ميزايتها لتنفيذ الإجراءات الاحترازية لاحتواء تفشي الفيروس، ودعم القطاعات الاقتصادية التي تضررت بسبب تعطل الحياة الاقتصادية (دعم الشركات والمؤسسات  والأفراد المتضررين). سينتج عن ذلك عجزاً مالياً في الميزانية الحكومية أكبر مما كان متوقع قبل حدوث الأزمة. مع تعثر القطاع الخاص من سداد ديونه البنكية ستواجة بعض البنوك أزمة سيولة في بداية الأمر. يمكن أن تتفاقم هذه المشكلة لتتحول سريعاً إلى مشكلة ملاءة مالية  تستدعي تدخل الحكومة لتقديم الدعم المادي لبعض البنوك لتفادي إنهيار القطاع البنكي (بسبب إفلاس بنك ليمان قبل عشر سنوات حصلت أكبر أزمة اقتصادية عالمية). ولتغطية العجز في الميزانية، ستضطر الحكومات للإقتراض ليرتفع الدين العام لمستوى جديد.

المرحلة الثانية. دعم الاقتصاد بحزم مالية كبيرة بعد التعافي. بعدالسيطرة على فيروس كورونا، ستعاود الأنشطة الاقتصادية للعمل من جديد ولكن سيكون أداء الاقتصاد ضعيفا جداَ بسبب خروج كثير من الشركات والمؤسسات الكبيرة والصغيرة من السوق مما سيدفع الحكومات إلى تقديم حزم مالية أخرى في محاولة منها لدفع النمو الاقتصادي للأمام. هنا ايضاً ستكون مستوى الإيرادات الحكومية متواضعة بينما ستكون المصروفات الحكومية مرتفعة.

المرحلة الثالثة. إصلاحات اقتصادية وسياسات التقشف المالي. سترتفع مديونية الحكومات لمستويات مرتفعة جداً خلال المرحلتين السابقتين بحيث ستتحّمل الميزانية عبء إضافي كبير لتغطية فوائد الديون مما يهدد استدامة اوضاع المالية العامة، وبالتالي سيكون الإصلاح المالي والاقتصادي ضرورة  ملحة لا يمكن تأجيله لتحقيق الإستقرار المالي. ولتقليص العجز المالي، ستتجه أغلب الحكومات إلى خفض الإنفاق الحكومي عن طريق ما يعرف بالإجراءات التقشفية أو زيادة الإيرادات من خلال رفع معدلات الضرائب، أو الاثنين معاً. هذا التوجه قد يؤدي إلى نتائج عكسية يعمل على تفاقم مشكلة الديون وإدخال الاقتصاد في حالة ركود اقتصادي مرة أخرى. فمع تباطؤ الاقتصاد ستنخفض الإيرادات الحكومية مرة أخرى والتي بدورها لن تكون كافية لتغطية المصروفات الحكومية. ولتغطية العجز في الميزانية، ستضطر الحكومة للإقتراض ليرتفع الدين العام لمستوى جديد. ومع استمرار انخفاض معدلات النمو الاقتصادي سيستمر الدين العام بالتزايد ليصل إلى مستويات غير مستقرة تكون نتائجها عكسية على النمو الاقتصادي ليدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة. 

خلاصة القول قد تصل الديون العالمية لمستويات قياسية يصاحبها تعثر بعض الدول من الاستمرار في خدمة ديونها. فهل سنرى النسخة الثانية من مبادرة صندوق النقد والبنك الدوليين التي اطلاقاها عام 1996م لتخفيف ديون الدول الفقيرة شديدة المديونية (HIPC) ولكن هذه المرة ستكون المبادرة موجه لتخفيف عبء الديون عن دول الأسواق الناشئة وغيرها من الدول ذات الدخل المرتفع؟

خاص_الفابيتا