يقدم علم الاقتصاد السلوكي تفسيرات كثيرة لما قد يخفق فيه الاقتصاد التقليدي، فباعتماده على علم النفس، فإنه يقدم تفسيرات لبعض الحالات الاستثنائية التي قد يتعطل فيها عمل السيستم أو النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد حاليا.
فالحالة الاقتصادية التي أحدثتها تداعيات كورونا وسلوك أسواق المال والنفط والمعادن بما فيها الذهب حالياً، يمكن تسميتها بحالة (اقتصاد الخوف Economics of Fear) والتي يمكن تفسيرها ضمن منظور الاقتصاد السلوكي.
فالأسهم على مختلف الأسواق في العالم تنهار، النفط يتهاوى في أقل من أسبوعين لما دون 30$ محققا انخفاضات بنسبة تجاوزت الـ 50%، الذهب (الملاذ الآمن كما يُطلق عليه أوقات الأزمات الاقتصادية) يتهاوى هو الأخر في مشهد غريب لم يتكرر كثيرا. كما أن مؤشر الخوف (CBOE Volatility Index -VIX) والذي يُعرف أيضا بمؤشر قلق الأسواق في أعلى مستوياته.
فتخفيض الفيدرالي للفائدة بشكل مفاجئ وعنيف مرتين لم يفصل بينهما أسبوعين (الأولي في 3 مارس بمقدار نصف بالمائة، والثاني في 16 مارس بمقدار واحد في المائة) لتقترب الفائدة الآن من الصفر، وإقرار خطة تحفيز كمي بمقدار 700 مليار دولار، لم يقدم رسالة طمأنة للأسواق، بل أعطى مزيد من الإشارات إلى الأسواق أن الوضع خطير جدا، وهو ما أثار الذعر مرة أخرى لتستمر كافة الأسواق في الهبوط. فالأسواق لا تنصت الآن لصوت السيستم الرأسمالي، وما فيه من أدوات تقليدية.
فالنظام التقليدي الذي يتضمن استخدام أدوات التحفيز في حالات الركود الاقتصادي المتوقع، والتي تتمحور حول تخفيض سعر الفائدة وخطط تحفيز كمي بضخ مزيد من الأموال في الأسواق، لا تعمل بكفاءة الآن، بل العكس هو ما حدث، واستقبلت الأسواق أدوات التحفيز بمزيد من الانهيارات المتتالية التي لا يستطيع أحد توقع مداها.
فالمشكلة الآن أن الاقتصاد العالمي يواجه دمارا مشتركا على جانبي العرض والطلب في نفس الوقت، لأن فيروس كورونا يخلق توقفًا مفاجئًا ومتزامنا على الجانبين.
فالمعالجات التقليدية للركود تقوم على تحفيز جانب الطلب بخلق مزيد من القوة الشرائية في أيدي الناس لتقوم بالشراء أكثر، فيرتفع الطلب، وتبدأ عجلة الإنتاج شبه المتوقفة في الدوران مرة أخري، وعن طريق أثر المضاعف يبدأ الاقتصاد في الانتعاش مرة أخرى.
لكن الوضع الحاصل الآن بسبب فيروس كورونا أن معظم الحركة شبة متوقفة (السفر، الطيران، الترفيه، مدارس وجامعات، إجازات إجبارية للموظفين ... إلخ) والدعاوى للبقاء في البيوت وجدت آذان صاغية من الكثير - جبرا أو اختيار – للحد من انتشار الفيروس، ومن ثم تصبح الآلية التقليدية لتشجيع الطلب غير فاعلة حيث الناس في البيوت، واستهلاكهم في الحد الأدنى، والتوجه العام في معظم البلدان هو عدم الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى.
أما جانب العرض، فهو الآخر ليس أفضل حالا، فسلسلة العرض – في حال انتشار المرض لا قدر الله – ستكون في خبر كان. وقد شاهدنا ذلك كنموذج مصغر في الصين عندما كانت حالات الإصابة عند معدلاتها القصوى، حيث توقفت المصانع عن الإنتاج، وما هو موجود بالفعل في المخازن من منتجات نهائية لا يجد من ينقله إلى المستهلك بسبب توقف حركة النقل والشحن.
في هذه الحالة المضطربة، وغير المعتادة، يلعب العامل النفسي الدور الأكبر، فحالة الذعر التي انتشرت على مستوى الجميع، لعب الإعلام الدور الأكبر في صناعتها، فمتابعة الشاشات وترقب حالة الزيادة المضطردة في أعداد المصابين بالفيروس، وفى مقابلها تعامل الحكومات بأدوات تقليدية على المستوى الاقتصادي، أنتج هذه الانهيارات المتتالية والمستمرة إلى اللحظة بكل الأسواق دون استثناء.
ومن ثم، نرى إنه من الضروري معالجة الوضع الراهن كإجراءات عاجلة على مستويين، الأول هو المعالجة النفسية لهذه الأحداث المتلاحقة عبر إرسال رسائل طمأنة يمكن أن تتقبلها الأسواق تراعي الحالة النفسية الراهنة، من خلال متخصصين في الاقتصاد السلوكي الذين يجب عليهم دراسة الظاهرة والحالات التاريخية المشابهة. والثاني، المعالجة الاقتصادية لآثار ما يحدث – خاصة في حال طول مدة هذه الأزمة وعدم اكتشاف لقاح خلال أسابيع قليلة - ولكن عبر أدوات غير تقليدية سواء على مستوى تنشيط الطلب بمزيد من الأتمتة واستخدام التكنولوجيا في حركة الشراء والدفع من المنزل ودون الحاجة للخروج إلى الأسواق، وكذلك التحول تدريجيا للعمل عن بعد كلما كان ذلك ممكنا.
وختاما، قد لا يحتاج الأمر لكل ما سبق، (على الأقل في الأجل القصير) فالأسواق المالية تنتظر فقط خبرا عن إيجاد لقاح الفيروس، أو انحسار المرض بدخول أشهر الصيف كما يدعى البعض لتعود الأسواق للون الأخضر مرة أخرى. إلا أنى أظن أن هذه الأزمة ستترك أثرا أعمق (في الأجل الطويل) في درجة الاطمئنان إلى كفاءة أدوات النظام الرأسمالي نفسه، فالأزمة اعتقد أنها الآن في النظام، وآلياته التقليدية، وفى القريب العاجل سنرى.
خاص_الفابيتا