شهد مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) في المملكة العربية السعودية تحولاً جذرياً في ظل رؤية 2030، حيث تطور من مجرد أعمال خيرية إلى أداة استراتيجية فاعلة لتحقيق التنمية المستدامة، ليصبح إطاراً شاملاً يربط بين التخطيط الاستراتيجي والأثر المجتمعي، ويتجلى هذا التحول بوضوح في شعار الملتقى الدولي الأول للمسؤولية الاجتماعية "من الالتزام إلى التأثير" الذي أقيم مؤخرًا برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -. وقد أثمرت جهود المملكة في هذا المجال عن قفزة نوعية في ترتيبها لتصل إلى المرتبة الـ 16 عالمياً في مؤشر المسؤولية الاجتماعية الصادر عن تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية IMD لعام 2024، وتعزز المسؤولية الاجتماعية للشركات دورها كركيزة أساسية في دعم التنمية المستدامة، بالتعاون مع القطاع الوقفي وغير الربحي. وتؤكد هذه المكانة الأرقام التي تشير إلى ارتفاع نسبة مساهمة الشركات السعودية في الإنفاق الاجتماعي إلى 4.15% في عام 2023 مقارنة بـ 1.19% في عام 2019، مع تضاعف عدد الشركات التي تقدم برامج ومبادرات المسؤولية الاجتماعية ليصل إلى 65% في عام 2023.
الجهود الوطنية لتعزيز المسؤولية الاجتماعية:
خلال العام الماضي (2024م)، شهدت المملكة إطلاق مبادرات ترسخ ممارسات المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومن أبرزها:
(1) إطلاق استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات: أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية استراتيجية وطنية للمسؤولية الاجتماعية تهدف إلى تنظيم جهود الشركات وضمان مواءمتها مع الأهداف التنموية الوطنية، حيث تعمل هذه الاستراتيجية على وضع معايير واضحة ومؤشرات قياس أداء لضمان تأثير ملموس ومستدام.
(2) تحديد يوم للمسئولية الاجتماعية: صدرت الموافقة الكريمة على أن يكون يوم 23 مارس من كل عام، هو يوم المسؤولية الاجتماعية، وهو ما يؤكد اهتمام المملكة بالتنمية المستدامة وفق مستهدفات رؤية المملكة 2030، ودعمها المستمر واللامحدود لشركات القطاع الخاص؛ لما تقدمه من أجل ازدهار المجتمع واستدامة موارده للأجيال القادمة.
(3) إصدار المواصفة القياسية للمسؤولية الاجتماعية: أصدرت الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة المواصفة القياسية للمسؤولية الاجتماعية (دليل الشركات) لتساعد الشركات على تصميم وتنفيذ مبادراتها وفقًا لأفضل الممارسات العالمية، ليعزز هذا التطور من مصداقية الشركات ويزيد من فعالية تأثيرها الاجتماعي.
(4) تدشين المنصة الوطنية للمسؤولية الاجتماعية: تعد هذه المنصة أداة مبتكرة لربط الشركات باحتياجات التنمية الوطنية، حيث تتيح المنصة للشركات تحديد مشروعات ومبادرات تلبي احتياجات المجتمع، مما يعزز من فرص الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع الثالث لتحقيق التنمية المستدامة.
(5) إطلاق الجائزة الوطنية للمسؤولية الاجتماعية: لإبراز دور الشركات وتشجيعها على تحسين ممارساتها، تم إطلاق الجائزة الوطنية للمسؤولية الاجتماعية، حيث تهدف الجائزة إلى تعزيز التنافسية والابتكار بين الشركات وتسليط الضوء على قصص نجاح تلهم الآخرين.
(6) الملتقى الدولي الأول للمسؤولية الاجتماعية: توجت الجهود الوطنية بعقد الملتقى الدولي الأول للمسؤولية الاجتماعية في أكتوبر 2024، حيث جمع الملتقى نخبة من الخبراء وصناع القرار لمناقشة آخر المستجدات في مجال المسؤولية الاجتماعية وتبادل التجارب الناجحة على المستوى المحلي والدولي.
فرص وتحديات تطوير المسؤولية الاجتماعية في المملكة:
مع التطورات الحالية، تبرز عدة فرص للشركات لتعظيم دورها في المسؤولية الاجتماعية، ومنها:
(1) رؤية المملكة 2030: تُوفر رؤية المملكة 2030 إطارًا عامًا لتحقيق التنمية المستدامة، و تُشجع الشركات على المساهمة في تحقيق أهدافها.
(2) الوعي المتزايد بأهمية المسؤولية الاجتماعية: يشهد المجتمع السعودي وعيًا متزايدًا بأهمية المسؤولية الاجتماعية، و يتوقع من الشركات أن تلعب دورًا فعالًا في التنمية المستدامة.
(3) التقدم التكنولوجي: يُسهم التقدم التكنولوجي في توفير أدوات وحلول مبتكرة لتعزيز مساهمة الشركات في التنمية المستدامة.
(4) توسيع نطاق الشراكات: بين القطاع الخاص و القطاع العام و القطاع الثالث لتنفيذ مبادرات ذات أثر واسع ومستدام.
(5) تعزيز الابتكار الاجتماعي: من خلال مشروعات تستهدف تمكين الفئات الأكثر حاجة وتوفير حلول مبتكرة للتحديات الاجتماعية.
كما تبرز عدة تحديات تُواجه ممارسات المسؤولية الاجتماعية، نذكر منها:
(1) قياس أثر المسؤولية الاجتماعية: يُعد قياس أثر المسؤولية الاجتماعية من التحديات الرئيسية التي تُواجه الشركات. و يمكن التغلب على هذا التحدي من خلال تطوير أدوات و منهجيات فعالة لقياس الأثر الاجتماعي والبيئي لمبادرات المسؤولية الاجتماعية.
(2) تكامل المسؤولية الاجتماعية مع استراتيجية الأعمال: يجب على الشركات أن تُدمج المسؤولية الاجتماعية في استراتيجية الأعمال لتحقيق أثر مستدام. و يمكن تحقيق ذلك من خلال ربط مبادرات المسؤولية الاجتماعية بأهداف الأعمال و جعلها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الشركة.
(3) التعاون بين مختلف الأطراف المعنية: يتطلب تعزيز المسؤولية الاجتماعية تعاونًا فعالًا بين مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومة و القطاع الخاص و المجتمع المدني. و يمكن تعزيز هذا التعاون من خلال بناء شراكات استراتيجية و تفعيل الحوار و التواصل بين مختلف الأطراف.
(4) تعزيز شفافية و مساءلة الشركات: حول ممارساتها في مجال المسؤولية الاجتماعية. و يمكن تحقيق ذلك من خلال مراجعة إصدار تقارير الاستدامة بانتظام و الكشف عن المعلومات المتعلقة بمبادرات المسؤولية الاجتماعية بشكل شفاف.
ختامًا، يعكس تطور المسؤولية الاجتماعية للشركات في المملكة التزامًا واضحًا بتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، ومع وجود بنية تنظيمية متكاملة ومبادرات محفزة، فإن الشركات السعودية أمام فرصة تاريخية للمساهمة بفعالية في بناء مجتمع أكثر ازدهارًا واستدامة، ليس فقط كواجب أخلاقي وفقط، بل كاستثمار طويل الأمد في مستقبل المملكة.
خاص_الفابيتا