في الوقت الذي بدا واضحا للجميع، كيف تشكلت الشرارة الأولى للأزمة المالية العالمية 2008، حسبما تم استعراضه بشكل موجز جدا في المقال السابق "ماذا تعني اضطرابات الأسواق المالية؟"، بدءا من إعلان مجموعة HSBC البريطانية خسائر هائلة في السوق الأمريكية في شباط (فبراير) 2007، حتى اللحظة الحاسمة في منتصف أيلول (سبتمبر) 2008 التي شهدت انفجار الأزمة، كان عنوانها الرئيس الانخفاض الهائل لأسهم Lehman Brothers بأكثر من 45 في المائة، واضطراره أمام انكشافه الفادح تجاه تلك القروض الرديئة إلى طلب الحماية بإعلان إفلاسه طبقا للمادة الـ11 من قانون الإفلاس الأمريكي، وما جرى من تطورات هائلة بين تاريخ البداية والنهاية، عدا بقية التفاصيل الدقيقة التي سبقت بداية تشكل الأزمة، إضافة إلى ما تلا لحظة انفجار الأزمة من تطورات وإجراءات عميقة، ما زال العمل بها ساريا حتى تاريخه، أؤكد أن ذلك الوضوح التام الذي يجري الحديث عنه هنا الآن لم يكن على الإطلاق بذلك الحال قبل وفي أثناء تشكل الأزمة المالية العالمية آنذاك.
بل؛ لقد كان على درجة عالية جدا من الغموض والتشابك والحيرة والضبابية، التي عاناها جميع مَن عاصر تلك المرحلة العصيبة من حياة العالم المعاصر، وفاق حتى توقعات القلائل جدا من الاقتصاديين الذين تنبأوا بحدوث تلك الأزمة قبل تاريخها بأعوام في مقدمتهم NOURIEL ROUBINI، وأن ما أصبحت عليه الأزمة المالية السابقة من وضوح كبير فيما بعدها زمنيا، لم تكن تتمتع بأي درجة منه قبلها وفي أثنائها حتى بنسبة 0.1 في المائة، ويأتي الاستشهاد بها مجددا في هذا الجانب لتأكيد أن الأمر من حيث غياب الوضوح بشأن الأزمة الاقتصادية العالمية 2020 الراهنة، يتكرر بصورة أكثر تعقيدا، ويزداد ذلك التعقيد بدرجة أكبر، خاصة ونحن في أولى بداياتها، وفي الوقت ذاته تجد أنها تنطلق من مواقع عالمية عديدة، على العكس تماما من الأزمة السابقة، وأيضا تجد أن أجزاء كبيرة من الأزمة الجديدة نشأت في أصلها من ميراث ملوث تماما من الأزمة المالية العالمية السابقة.
إنها أزمة أشبه ما تكون بسفينة عملاقة جدا اقترب رأسها من ميناء الاقتصاد العالمي، ولم ير حتى الآن آخر تلك السفينة، وما شهده العالم حتى تاريخه ليس إلا اندفاعا هائجا للأمواج من تحتها نحو الميناء، وهو ما تتسم به الأزمات الكبرى من قوة لصدماتها عند البداية، وسرعان ما تبدأ في الكشف عن ويلاتها وآثارها الوخيمة تباعا في مراحل لاحقة، وكل ما تقرأه وتشاهده من محاولات لوضع تصورات لها من قبل الاقتصاديين والمختصين، تجد أن الجزء الأسهل من تلك الأطروحات يحوم حول الأسباب التي أدت إلى انفجار تلك الأزمة، فيما يتمثل الجزء الأصعب والأكثر تعقيدا في إيجاد الحلول اللازمة للنجاة منها، والخروج من دائرتها!
لقد كان من أدق من وصف الأزمة الاقتصادية العالمية 2020 الراهنة، وأنها تتجاوز كثيرا مجرد كونها أزمة مالية كأزمة 2008، ما كتبه أستاذ علوم الاقتصاد BARRY EICHENGREEN في مقاله المنشور منتصف الأسبوع الماضي بعنوان "مبادئ اقتصاديات كورونا Coronanomics 101"، للتمييز بين الأزمتين: ليس بإمكان السياسة النقدية إصلاح سلاسل التوريد المعطلة "عبر خفض أسعار الفائدة، التي تقبع بالأصل عند مستويات منخفضة للغاية"، وتوقع أن ضخ سيولة من قبل البنك المركزي سيساعد على تشغيل حركة الحاويات العالمية مرة أخرى، كما حدث عام 2008 الذي تمثلت أزمته في اضطرابات تدفق التمويل، وكان يمكن إصلاحها عن طريق ضخ السيولة من جانب البنوك المركزية! إن المشكلة اليوم تكمن في التوقف المفاجئ للإنتاج، الذي لا يمكن للسياسة النقدية تعويضه، ولن تستطيع أيضا إعادة المتسوقين إلى مراكز التسوق أو المسافرين إلى الطائرات، ما دامت اهتماماتهم تنصب على السلامة وليست التكلفة. وهو أيضا ما ينطبق على السياسة المالية؛ فلن تعيد ائتماناتها الضريبية تشغيل الإنتاج في الوقت الذي تنشغل الشركات بصحة عمالها وخطر انتشار الأمراض، ولن تؤدي تخفيضات الضرائب على الرواتب إلى زيادة الإنفاق الاختياري عندما يشعر المستهلكون بالقلق إزاء سلامة سلسلة الوجبات السريعة المفضلة لديهم.
سيؤدي الانكماش الشديد في مستويات الإنتاج والتوريد والتبادلات التجارية، وتوقف كثير من القطاعات الصناعية والخدمية والتجارية، وما يقابله من انكماش مماثل للطلب الاستهلاكي، إلى كثير من الآثار السلبية في الاقتصادات والأسواق حول العالم، وترتفع معه بدرجة عالية المخاطر على الأطراف كافة، من أهمها تعرض القطاعات التمويلية لمخاطر تعثر المدينين لها عن سداد المستحقات عليهم، وانكشافها على حالات تعثر غير مسبوقة تاريخيا، ويزداد خطر هذا الجانب في الوقت الذي تقترب ديون العالم اليوم من سقف 260 تريليون دولار، وأمام ما ذكر أعلاه لم يعد في قدرة السياسات المالية والنقدية ما يمكن أن تنجح في القيام به، كما حدث معها خلال الأزمة المالية العالمية 2008، ويبقى السؤال القائم خلال المرحلة الراهنة، التي تترقب بكثير من القلق العالمي كل تلك التحولات العكسية: هل بالإمكان فعل شيء لوقف انتشار فيروس كورونا "كوفيد-19"؛ كونه الشرارة الأولى التي أشعلت مخاطر نقاط الضعف الكامنة في جسد الاقتصاد العالمي، وانتقلت تلتهم كل ما يقف في طريقها من أسواق واقتصادات ومجتمعات؟!
نقلا عن الاقتصادية
بل؛ لقد كان على درجة عالية جدا من الغموض والتشابك والحيرة والضبابية، التي عاناها جميع مَن عاصر تلك المرحلة العصيبة من حياة العالم المعاصر، وفاق حتى توقعات القلائل جدا من الاقتصاديين الذين تنبأوا بحدوث تلك الأزمة قبل تاريخها بأعوام في مقدمتهم NOURIEL ROUBINI، وأن ما أصبحت عليه الأزمة المالية السابقة من وضوح كبير فيما بعدها زمنيا، لم تكن تتمتع بأي درجة منه قبلها وفي أثنائها حتى بنسبة 0.1 في المائة، ويأتي الاستشهاد بها مجددا في هذا الجانب لتأكيد أن الأمر من حيث غياب الوضوح بشأن الأزمة الاقتصادية العالمية 2020 الراهنة، يتكرر بصورة أكثر تعقيدا، ويزداد ذلك التعقيد بدرجة أكبر، خاصة ونحن في أولى بداياتها، وفي الوقت ذاته تجد أنها تنطلق من مواقع عالمية عديدة، على العكس تماما من الأزمة السابقة، وأيضا تجد أن أجزاء كبيرة من الأزمة الجديدة نشأت في أصلها من ميراث ملوث تماما من الأزمة المالية العالمية السابقة.
إنها أزمة أشبه ما تكون بسفينة عملاقة جدا اقترب رأسها من ميناء الاقتصاد العالمي، ولم ير حتى الآن آخر تلك السفينة، وما شهده العالم حتى تاريخه ليس إلا اندفاعا هائجا للأمواج من تحتها نحو الميناء، وهو ما تتسم به الأزمات الكبرى من قوة لصدماتها عند البداية، وسرعان ما تبدأ في الكشف عن ويلاتها وآثارها الوخيمة تباعا في مراحل لاحقة، وكل ما تقرأه وتشاهده من محاولات لوضع تصورات لها من قبل الاقتصاديين والمختصين، تجد أن الجزء الأسهل من تلك الأطروحات يحوم حول الأسباب التي أدت إلى انفجار تلك الأزمة، فيما يتمثل الجزء الأصعب والأكثر تعقيدا في إيجاد الحلول اللازمة للنجاة منها، والخروج من دائرتها!
لقد كان من أدق من وصف الأزمة الاقتصادية العالمية 2020 الراهنة، وأنها تتجاوز كثيرا مجرد كونها أزمة مالية كأزمة 2008، ما كتبه أستاذ علوم الاقتصاد BARRY EICHENGREEN في مقاله المنشور منتصف الأسبوع الماضي بعنوان "مبادئ اقتصاديات كورونا Coronanomics 101"، للتمييز بين الأزمتين: ليس بإمكان السياسة النقدية إصلاح سلاسل التوريد المعطلة "عبر خفض أسعار الفائدة، التي تقبع بالأصل عند مستويات منخفضة للغاية"، وتوقع أن ضخ سيولة من قبل البنك المركزي سيساعد على تشغيل حركة الحاويات العالمية مرة أخرى، كما حدث عام 2008 الذي تمثلت أزمته في اضطرابات تدفق التمويل، وكان يمكن إصلاحها عن طريق ضخ السيولة من جانب البنوك المركزية! إن المشكلة اليوم تكمن في التوقف المفاجئ للإنتاج، الذي لا يمكن للسياسة النقدية تعويضه، ولن تستطيع أيضا إعادة المتسوقين إلى مراكز التسوق أو المسافرين إلى الطائرات، ما دامت اهتماماتهم تنصب على السلامة وليست التكلفة. وهو أيضا ما ينطبق على السياسة المالية؛ فلن تعيد ائتماناتها الضريبية تشغيل الإنتاج في الوقت الذي تنشغل الشركات بصحة عمالها وخطر انتشار الأمراض، ولن تؤدي تخفيضات الضرائب على الرواتب إلى زيادة الإنفاق الاختياري عندما يشعر المستهلكون بالقلق إزاء سلامة سلسلة الوجبات السريعة المفضلة لديهم.
سيؤدي الانكماش الشديد في مستويات الإنتاج والتوريد والتبادلات التجارية، وتوقف كثير من القطاعات الصناعية والخدمية والتجارية، وما يقابله من انكماش مماثل للطلب الاستهلاكي، إلى كثير من الآثار السلبية في الاقتصادات والأسواق حول العالم، وترتفع معه بدرجة عالية المخاطر على الأطراف كافة، من أهمها تعرض القطاعات التمويلية لمخاطر تعثر المدينين لها عن سداد المستحقات عليهم، وانكشافها على حالات تعثر غير مسبوقة تاريخيا، ويزداد خطر هذا الجانب في الوقت الذي تقترب ديون العالم اليوم من سقف 260 تريليون دولار، وأمام ما ذكر أعلاه لم يعد في قدرة السياسات المالية والنقدية ما يمكن أن تنجح في القيام به، كما حدث معها خلال الأزمة المالية العالمية 2008، ويبقى السؤال القائم خلال المرحلة الراهنة، التي تترقب بكثير من القلق العالمي كل تلك التحولات العكسية: هل بالإمكان فعل شيء لوقف انتشار فيروس كورونا "كوفيد-19"؛ كونه الشرارة الأولى التي أشعلت مخاطر نقاط الضعف الكامنة في جسد الاقتصاد العالمي، وانتقلت تلتهم كل ما يقف في طريقها من أسواق واقتصادات ومجتمعات؟!
نقلا عن الاقتصادية