فهم خاطئ «لدراسة الإصلاحات المالية» لتحولات الاقتصاد

27/01/2020 1
عبد الحميد العمري
تضمن منتدى الرياض الاقتصادي الأخير، الذي عُقد نهاية الأسبوع الماضي مناقشة "دراسة الإصلاحات المالية العامة وأثرها في التنمية الاقتصادية في المملكة العربية السعودية" كان من أبرز وأهم ما ورد فيها من نتائج وتوصيات مستخلصة على عدة مستويات:

(أولا) الأثر في النمو الاقتصادي: والمطالبة بزيادة الإنفاق الحكومي في الأجل الطويل، وصولا إلى ما قدرته الدراسة كحجم أمثل للإنفاق الحكومي منسوبا إلى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 42 في المائة، والمطالبة بزيادته من مستوياته الراهنة بين 36 و37 في المائة، لما أكدته الدراسة من أن زيادة الإنفاق الحكومي سنويا بنسبة 10 في المائة، ستؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي بنسبة أكبر في حدود 13.5 في المائة.

(ثانيا) الأثر في التنافسية الدولية: انطلقت الدراسة في تفسيرها لأسباب تراجع المركز التنافسي للمملكة من 29 إلى 39 خلال الفترة 2016 - 2018، من أنه نشأ نتيجة لآليات تطبيق برنامج تحقيق التوازن المالي، وإلى بعض العوامل المرتبطة بفاعلية السياسة المالية، مثل عدم اكتمال الشفافية في الميزانية العامة، وفرض القيود على استقدام العمالة الوافدة، وزيادة تكلفة العمالة بعد فرض المقابل المادي، فضلا عن عدم كفاية الدعم والائتمان المقدم للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وزيادة رسوم الخدمات البلدية وفرض ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار الطاقة.

(ثالثا) الأثر في بيئة الاستثمار: عزت الدراسة ضعف مستويات الأداء الاقتصادي لقطاع الأعمال الخاص خلال 2017 - 2018 إلى زيادة تكلفة ممارسة الأعمال، خاصة تكلفة العمالة الوافدة من ناحية ومن ناحية أخرى إلى انكماش الطلب السوقي. ومما ضاعف من أثر انكماش الطلب السوقي وفقا لوجهة نظر الدراسة، تخارج نحو 1.6 مليون عامل وافد، ورحيل نحو 4.0 ملايين مرافق بعد فرض المقابل المادي على العمالة الوافدة والمرافقين، علاوة على تنامي تحويلات العاملين الوافدين للخارج لذويهم، بدلا من إنفاقها في الداخل. ثم اشترطت الدراسة ليكون للإصلاحات المالية أثر إيجابي في كل المتغيرات الاقتصادية في الأجل المتوسط 2020 - 2023 أن تواصل الحكومة في اتباع السياسة التوسعية ونماء الإنفاق الحكومي، مراجعة وتقويم الإجراءات التصحيحية لتعظيم فاعليتها في تنشيط السوق، التدرج في تطبيق خطوات الإصلاح المالي، وتمديد آجال التطبيق لفترات أطول، تفعيل المبادرات المطروحة لتحفيز القطاع الخاص، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة ونشاط التصدير. توجيه قدر مناسب من الموارد لزيادة دعم البرامج الاجتماعية، لتعزيز القوى الشرائية للمواطنين "حساب المواطن، بدلات غلاء المعيشة، والقروض السكنية المدعومة".

على الرغم من جوانب عديدة تضمنتها الدراسة على مستوى توصياتها التي يتفق عليها وعلى أهمية العمل بها، إلا أن الدراسة تضمنت أيضا توصيات ومطالبات تتعارض تماما مع توجهات "رؤية المملكة 2030" ومع أغلب برامجها التنفيذية بدأ الخطأ أساسا في التوصل إلى تلك التوصيات والمطالبات من خطأ استنادها في دراسة العوامل المحددة لنمو الاقتصاد الوطني، إلى الفترة الزمنية 1970 - 2017 تلك الفترة التي تستهدف "رؤية المملكة 2030" في أساسها إلى تجاوز كامل لتلك المرحلة الزمنية تماما، والانتقال من أوضاعها بالكامل إلى أوضاع مختلفة تماما عنها، وهو الخطأ الجوهري الذي فات على معدي الدراسة إدراكه ووضعه نصب أعينهم، ولهذا جاء كثير من توصيات ومطالبات الدراسة كأنها تنشد العودة إلى ما كان الاقتصاد الوطني قائما عليه من اعتماد كلي على الإنفاق والدعم الحكوميين، الذي كانت الحكومة بدورها تعتمد للوفاء به على مداخيل النفط المتذبذبة طوال تلك الفترة الزمنية الطويلة.

إن مجرد الاستماع إلى توصية الدراسة بضرورة رفع مساهمة الإنفاق الحكومي سنويا إلى 42 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لو تم العمل بها منذ بداية خطط الإصلاح منتصف 2016، لكنا مع نهاية العام المالي 2019 في مواجهة عجز مالي يفوق 264 مليار ريال "9.4 في المائة من الناتج المحلي"، أي أعلى بنسبة 101 في المائة مقارنة بمستواه الراهن البالغ 131 مليار ريال "4.7 في المائة من الناتج المحلي"، لكنا خلال الفترة نفسها أصبحنا في مواجهة حجم دين حكومي عام يناهز 811 مليار ريال "28.8 في المائة من الناتج المحلي"، أي أعلى بنسبة تناهز 20 في المائة مقارنة بمستواه المقدر بنحو 678 مليار ريال "24.1 في المائة من الناتج المحلي". ليس هذا فحسب بل إن المضي قدما في طريق تلك التوصيات التي تضمنتها الدراسة، يعني أننا بحلول 2022 سنقف أمام عجز مالي في الميزانية يناهز 470 مليار ريال "14.8 في المائة من الناتج المحلي"، أي أعلى بنسبة 410 في المائة مقارنة بمستوى العجز المستهدف في ذلك العام الذي لا يتجاوز 92 مليار ريال "2.9 في المائة من الناتج المحلي"، وكنا سنقف بحلول 2022 أمام حجم دين حكومي ضخم لا يقل عن 1.3 تريليون ريال "41.0 في المائة من الناتج المحلي"، وهو المستوى الأعلى بنحو 41.0 في المائة من حجم الدين الحكومي المستهدف ألا يتجاوز 924 مليار ريال بحلول 2022 "29.1 في المائة من الناتج المحلي".

هذا غيض من فيض، الدراسة لم تتنبه إلى أن من أهم أهداف "رؤية المملكة 2030" وضع القطاع الخاص في موضع أكبر وأهم مما هو عليه قبل البدء في تنفيذها، والعمل على رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 40 إلى 60 في المائة بحلول 2030، وأن يتحول إلى قطاع أعلى إنتاجية وأقوى تنوعا في قاعدته ونشاطاته وأكثر استقلالية عن الإنفاق والدعم الحكومي، وكل ذلك يعني أنه لا بد أن يصبح أكثر تنافسية محليا ودوليا، وهو الوضع الذي يؤهله إلى أن يكون مؤهلا لمزيد من توظيف الموارد البشرية الوطنية، لا استمرار الاعتماد على العمالة الوافدة التي استمرت الدراسة في التوصية بمزيد من الاعتماد عليها، والمطالبة بمزيد من استقدامها وتخفيف الرسوم المادية على توظيفها، كما أنه الوضع الذي يؤهل القطاع الخاص إلى أن يصبح قادرا على تمويل الإيرادات الحكومية غير النفطية بما يصل إلى نحو 1.0 تريليون ريال، المخطط أن تغطي 100 في المائة من الإنفاق الحكومي بالكامل، وهو على العكس تماما مما توصي به الدراسة من ضرورة قيام الحكومة بزيادة إنفاقها إلى ما يعادل 42 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتوجيه أغلب ذلك الإنفاق لأجل دعم القطاع الخاص! إذ يؤمل من خلال مشروع "رؤية 2030" أن يصبح القطاع الخاص بما سيتحقق له من قيمة مضافة، أن يكون هو من يدعم الميزانية الحكومية عبر الإيرادات غير النفطية. وللحديث بقية أهم في المقال التالي حول هذه الدراسة، التي ركزت نظرتها على ما مضى خلال نصف قرن لا أحد يريد العودة إليه، ومن ثم استنبطت توصيات تريد أن نمضي عليها نصف قرن مقبل.

نقلا عن الاقتصادية