بعض الأفكار الاقتصادية تصل إلى نتائج مهمة إذا أعطيت حقها من الاستيعاب وتحويلها إلى ركيزة في منظومات السياسات العامة، إحدى هذه الأفكار العلاقة بين السلع القابلة للمتاجرة وغير القابلة للمتاجرة في اقتصادات كل الدول بدرجات مختلفة حسب حالة الاقتصاد حجما و تعقيدا، المقصود بالمتداولة السلع القابلة للاستيراد والتصدير مثل المصنوعات وبعض الخدمات، والسلع غير القابلة للمتاجرة مثل الأصول وبعض الأعمال كقطاع الإنشاءات وأغلب الأيدي العاملة وبعض الخدمات أيضا، هناك بعض التطابق، لكن يمكن التفريق بدرجة مقبولة عمليا. التفريق مهم ليس في رصد أداء ميزان المدفوعات فقط لكن في تأهيل الاقتصاد كي يكون قادرا على تحقيق فائض تجاري من خلال القدرة على التصدير وضمنيا على تمكين درجة من التنافسية مع الدول الأخرى.
كل إدارة اقتصادية فاعلة تحتاج إلى فرز واضح كي تستطيع التمييز بين أنماط العلاقة الاقتصادية داخل الاقتصاد قبل أن تلتفت إلى علاقة بين اقتصادها واقتصادات الدول الأخرى. لكن حين يكون الاقتصاد قائما على سلعة رئيسة مثل حالة الدول النفطية خاصة أنها سلعة قابلة للمتاجرة يصبح منظار الاقتصاد من خلال العلاقة بين القابل للمتاجرة وغير القابل للمتاجرة أكثر إلحاحا وصعوبة في التحليل والأخذ بسياسات تنبع منه.
ومن اللافت أن سيطرة سلعة النفط "سلعة قابلة للمتاجرة" تضعف السلع الأخرى القابلة للمتاجرة "مثل تطوير الصناعة والخدمات والمهارات الجدارات في النواحي البشرية" ومداخليها على الهيكل الاقتصادي. هناك عدة أعراض وتبعات لهذه الحالة، أولها أن الأصول أهم من الصناعة وعادة أكثر ربحية وبالتالي يصبح الاقتصاد صعب التعميق "إيجاد للروابط الأفقية والرأسية"، ومنها أن الأجور في القطاع العام أعلى منها في الأغلب من القطاع الخاص وبالتالي كثيرون يفضلون العمل في القطاع العام ما يرفع تكلفة الجهاز العام ويعوق إنتاجيته، ومنها أن السياسة المالية "إدارة المصروفات" تقود الحراك الاقتصادي وليس العكس، فتصبح عربة المال (المالية) تقود الحصان (الاقتصاد)، ومنها أيضا أن السياسة النقدية تصبح مرتبطة بمعيار خارجي لتثبيت واستقرار السياسة المالية من ناحية والثبات والاطمئنان على أسعار الأصول من ناحية أخرى، وبالتالي تصبح السياسة النقدية في الأغلب غير نشطة وتعتمد الإدارة غالبا على تفعيل الإدارة المالية ما يعرضها إلى التذبذب أكثر لأن النفط متذبذب بطبيعته. التعرض للتذبذب يرفع المخاطرة في الاقتصاد من ناحية ويجعل عملية التحول إلى اقتصاد حديث تحديا عمليا ومحفوفا بالمخاطر ويحد من المنافسة. بعض هذه الأعراض جزئي لكنها واضحة ومؤثرة مثل أسعار الأراضي فسبل المتاجرة بما لا يتاجر به أصبحت أهم وسط استثماري ومضاربي، الأحرى أن توظف كمدخل اقتصادي (خدمي وسكني ومدني)، ولجوء كثيرين إلى شهادات عليا دون قيمة مضافة وعزوف كثيرين عن التعليم الفني وحتى عدم دقة في توظيف الأموال استثماريا واستهلاكيا.
العلاقة بين القابل وغير القابل للمتاجرة المفترض فيها أن تكون ديناميكية لتعبر عن اقتصاد حيوي وتنافسي، لكن الرغبة في الاستكانة والاستقرار جعلتنا نقاوم توظيف هذه العدسة غالبا لا إراديا وأحيانا إراديا. إحدى فوائد هذه العدسة أنها تجبرنا على التمييز بين المهم والأهم، وكذلك تجر إلى المنافسة بين الأعمال داخليا وبالتالي ترتفع الكفاءة. الاقتصاد بطبعه معقد ولذلك لا تكفي عدسة واحدة، لكني أرى أن هذه نافذة ضرورية لإعادة هيكلة الاقتصاد وإصلاحه. المشهد الاقتصادي دائما معقد ولذلك كثيرون يتعاملون معه دون انضباط وضبط بين الأعراض والمسببات من ناحية، وبين الداخلي والخارجي من ناحية أخرى، وبين الجزئي والكلي من ناحية، وبين التوزيعي والإنتاجي. توظيف هذه الآلية ليس حلا سحريا لكل الآفات الاقتصادية لكنها عدسة تجبرنا على التركيز وآلية موضوعية في المنتصف من الجميع. حان الوقت لتوظيف هذه العدسة المنهجية لتقويم المشهد الاقتصادي.
نافذة اقتصادية «جديدة»
نقلا عن الاقتصادية