الإدارة في التراث الإسلامي

26/08/2019 3
عبدالله الجعيثن

هذا عنوان كتاب جيِّد يقع في 431 صفحة من القطع المتوسط، ألفه الدكتوران: محمد بن عبدالله البرعي، وعدنان بن حمدي تابعين، من كلية الإدارة الصناعية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، بالمنطقة الشرقية من المملكة.

وقد ذكر المؤلفان الكريمان أنه الجزء الأول، ورغم أنني أقتني الكتاب منذ زمن طويل، ورغم أنه صدر في عام 1408هـ - 1987م إلا أنني لم أرَ الجزء الثاني قط، ولا أدري هل عاق عائقٌ إتمامه أو طباعته، أم أنه قد صدر ولم يتسنَّ لي رؤيته رغم طول ترددي على المكتبات، ولهذا ندعو المؤلفَين الكريمين إلى إصدار الجزء الثاني إن لم يكن صدر بعد، وإلى إعادة طباعته إن كان قد صدر، مع شكّي في ذلك لأن الجزء الأول ما يزال متوفراً في المكتبات، بينما الجزء الثاني لم أره قط كما ذكرت.

٭ ٭ ٭

والكتاب عبارة عن مختارات من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والحكم والأمثال حول الإدارة بشكل عام، وبدون أي تعليق على تلك المختارات، فقد اكتفى المؤلفان بالتبويب والاختيار، وفي هذا عمل جيد، فالاختيار نافع جداً، وحسن الترتيب يفيد، ولهذا فإننا سوف نختار من ذلك المختار، ونتولى التعليق عليه في بعض الأحيان.

٭ ٭ ٭

هذا وقد قدم الكتاب الدكتور محمد رواس قلعة جي، وكان مما قال في مقدمته الضافية:

"ما أشبه التراث بالرجل الكبير الجليل الوقور الذي طوى صدره ووعيه تجارب السنين ينثرها في كل مجلس على مجالسيه، ولا يبخل بها على طالب، وهو مع جلالة قدره ووفور علمه على استعداد لأن يضم إلى حصيلته الثمينة ما يستفيده من الأحداث ومن أولاده وأحفاده..." ص5

قلت "تشخيص جميل للتراث يشوق القارئ إلى الاستماع إلى هذا الشيخ الجليل!".

ثم قال:

"ولعل من أهم ما يحمله التراث لنا من الدار الثمينة (الحكم والأمثال) والحكمة كلام يقل لفظه ويجل معناه، أو هي جوامع الكلم كقوله (لا يلدغ المؤمن من جحْر مرتين) وقوله (لا تكن يابساً فتكسر ولا ليناً فتعصر).

أما المثل فهو كلام نطق به بعض القدامى في مناسبة من المناسبات فأخذ الناس يتداولونه ويطلقونه على ما شابهها من المناسبات دون تغيير فيه كقولهم (رجع بخفي حنين) لكل من رجع خائباً لم يحقق بغيته، وقولهم (الصيف ضيعت اللبن) لكل من أتيحت له فرصة فضيعها ثم جلس محروماً.

ولهذا فالفرق بين الحكمة والمثل: أن الحكمة قاعدة، أما المثل فهو حكاية حال سابق." ص ,7.

قلت: وكثيراً ما يكون المثل قاعدة أيضاً.

٭ ٭ ٭

بعد ذلك كتب المؤلفان مقدمة أخرى ضافية تحت عنوان: "أهمية التراث في الإدارة"

وكان مما قالاه:

"يعتبر العامل الثقافي والحضاري من أهم العوامل التي تسهم في الحفاظ على كرامة الشعوب الوطنية، ودفع عجلة تقدمها وتفوقها على الأمم الأخرى، ولقد بنى أجدادنا الأوائل ثقافتهم وحضارتهم مع نشرهم للدين الحنيف حتى وصلوا به إلى جنوب فرنسا وحدود سيبيريا حيث أصبحت الدولة الإسلامية أكبر من إمبراطورية الإسكندر وأوسع من مملكة الرومان..

وتوقف نشر الحضارة الإسلامية وانقلبت كفة الزمان وبدأت عملية الانتقام من حيث بدأ الغزاة المستعمرون من تتر ومغول وصليبيين ويهود يدمرون ثقافتنا وحضارتنا بحرق المكتبات العربية الزاخرة بالعلم وبقتل مثقفينا وعلمائنا وتدمير جامعاتنا وبيوت علمنا ومراكز ثقافتنا، وبما أن هذه النقمة ما تزال مستمرة حتى اليوم صار لزاماً علينا أن نعمل جهدنا ونشحذ عزيمتنا للرجوع إلى تقاليدنا وإبراز حضارتنا ومزجها بما توصلت إليه أحدث النظريات العلمية التي تتماشى مع أخلاقنا وديننا وطبيعة حياتنا، ذلك لأن تراثنا غني وعزمنا على حفظ كرامتنا أصيل.." ص13.

"بما أن الإدارة هي فن وعلم، فإن للتراث أهميته التي نصوغها على الممارسات والأعمال الإدارية لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مجموع هذا التراث وخاصة الجزء الذي يتعلق بالحكم والأمثال والمواعظ والأقوال المأثورة السائدة والتي هي في مجملها دروس من الحياة تدل على خبرة قائليها وممارستهم لشتى أنواع الأعمال، وحيث إن الإنسان هو الإنسان، فإن معظم هذه الحكم والأقوال المأثورة -إن لم تكن كلها- لا زالت تخاطب هذا الإنسان الموجود في عصرنا الحاضر.." ص 14

ثم يسلطان الأضواء على بعض دعائم الإدارة في تراثنا وطبيعة مفاهيمها حيث يمكن اختصار ما يوحي به تراثنا الغني عن الإدارة عموماً في خمس نقاط:

1 - أن الإدارة أمانة ونيابة ووكالة وإجازة.. والمسؤولية ملازمة لكل صفة من هذه الصفات.

2 - أن الإدارة -كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه- تكليف لا تشريف.

3 - الإسلام يربط الإدارة بتقوى الفرد واتجاهه إلى الله.

4 - الإدارة مفهوم قابل لاستيعاب التجارب الأخرى واقتباسها اقتباس تمثُّل لا تقليد.

5 - التدريب على الإدارة ممكن من وجهة النظر الإسلامية عن طريق السعي في إصلاح الأحوال.

قلت:

ولي ملاحظة على الفقرة الثالثة حيث ذكر المؤلفان (أن الإسلام يربط الإدارة بتقوى الفرد واتجاهه إلى الله)..

الواقع أن الإسلام يريد (القوة مع التقوى)، قال الله عز وجل "إن خير من استأجرت القوي الأمين"

٭ ٭ ٭

والآن سنذكر أهم أبواب الكتاب مع بعض ما اختاره المؤلفان وبعض التعليق من كاتب المقال:

التخطيط والتفكير والإبداع

٭ {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرن} سورة الأنعام الآية (50)، فالذي يفكر ويخطط مبصر بإذن الله، أما الذي يعمل دون تفكير ولا تخطيط فإنه أقرب إلى العمى كحاطب بليل قد تلدغه أفعى..

٭ (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها) حديث شريف رواه الترمزي.

قلت: إن الذي عقله مفتوح على العالم، وآفاقه واسعة، يقطف ثمار الحكمة من كل حدائق العالم.. بعكس مغلق العقل.

٭ قدّرْ لرجلك قبل الخَطْو موضَعها

فمن علا زلقاً عن غرة زَلَقا

"محمد بن بشير"

قلت.. وعندنا يقولون: "قس عشر مرات وقص مرة واحدة".. فلا بد من التخطيط الدقيق.

٭ تمّهل وتسهل!

"الفضل بن سهل"

قول مختصر!.. فالإتقان والعجلة لا يجتمعان.. التمهل فيه صبر وتخطيط ويوصلك إلى الأفضل بالطريقة الأسهل!

التوجيه الإداري والقيادة والرقابة

٭ {لا تُكلف نفْس إلا وسعها} سورة البقرة الآية 233

قلت: ما أنفع أن نتذكر هذه الآية العظيمة كلما أردنا تكليف أحد بعمل لنعرف أيقدر أم لا؟ كذلك تعليق نفوسنا ببعض الأعمال الشاقة والطموحات القافزة قد يكون فوق ما نطيق!

٭ «من لا يَرْحَم لا يُرحم» حديث شريف أخرجه مسلم..

إن الإدارة تتعامل مع البشر لا الحجر، لذلك فإن العلاقات الإنسانية الجميلة أساسية، وذروتها الرحمة.

٭ إن السلاح جميع الناس تحمله

وليس كل ذوات المخلب السبع

"المتنبي"

قلت: يذكرنا هذا البيت بأن المؤهلات العلمية ليست كل شيء!.. الموهبة والشخصية أهم.. الإدارة -وخاصة في القيادة- تحتاج إلى الموهبة والشخصية أكثر من المؤهل.

(الخبرة والتجربة والثقة في النفس)

٭ "اعقلها وتوكل" حديث شريف رواه الترمذي..

قلت: ويدل على أن الحزم نتاج الخبرة ولا يناقض الثقة بالنفس بل يقويها.

٭ "من لا يعرف الشرك أجدر أن يقع فيه" - عمر بن الخطاب.

قلت: هذا صحيح، إن الخبير هو الذي يميز بين الشر والخير، بل بين أهون الشرين.. إذا حكمت الضرورة.

٭ وهُدى التجارب في الشيوخ وإنما

أمل البلاد يكون في شبانها

"الرصافي"

فإذا تعاون الشيوخ مع الشباب بلغنا أعلى الدرجات.. هنا لا بد من احترام الصغير للكبير، ورحمة الكبير بالصغير وعدم بخله عليه بتجاربه ورأيه.

٭ "كل واحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".

"مالك بن أنس"

إن نتاج الخبرة الطويل يعلم أن كل الناس معرضون للخطأ ما عدا المعصوم، وهبة الثقة بالنفس -النابعة من الخبرة والتجارب المتراكمة- تساعد على سبر الأمر وتمييز الصواب من الخطأ.

(حب العمل)

٭ "ولكل درجات مما عملوا" - سورة الأنعام - الآية 133.

نعم إن العمل يرفع صاحبه درجات، ليس العاملون كالقاعدين وقد ورد في القرآن {ولا تنْس نصيبك من الدنيا} سورة القصص - الآية 77، وقال عز وجل {ليس للإنسان إلا ما سعى{

٭ "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" - رواه البيهقي..

قلت: إتقان العمل هو سعادة الدنيا والآخرة، وأضمن الطرق لبلوغ النجاح، وخير سبيل لراحة الضمير..

٭ "ليس المهم أن تعلم ولكن الأكثر أهمية أن توفق للعمل بما علمت"

وهذا صحيح فالعلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر..

(أخلاقيات الإداري الناجح)

٭ }ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} - آل عمران:159

الإداري متحجر القلب لا يثمر سوى البغض له ولمنشآته وإن عمل مرؤوسوه لأنه يراهم، فإنهم يحرصون على عكس ذلك فيما بعد، فوق رغبتهم في الانتقام، لا يقسو على الناس إلا جاهل بطبيعة هذه الحياة.

٭ "ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"

إن الإداري الناجح ذا المنصب الكبير يكون تواضعه عن قناعة لا مصانعة، لأن النجاح أراح أعصابه، وخبرته بالحياة علمته أنه لا شيء يستحق التكبر سوى الجهل والإحساس بالنقص.

٭ "من عاشر الناس بالمكر كافؤوه بالغدر" - (الأحنف بن قيس)

قلت: من أخلاق بعض الإداريين المتسلقين المكر، يظنونه دهاء وذكاء فلا يجدون فيه إلا الحفر في طريقهم وخناجر الغدر في ظهورهم!

(المسؤولية واستخدام السلطة)

٭ {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} - آل عمران الآية 159

إن التردد -مع وضوح الأمر- آفة الإداري.. وعلامة ضعفه وعدم قدرته على تحمل المسؤولية الموكلة إليه وأنها أكبر منه..

}اعدلوا هو أقرب للتقوى} - سورة المائدة، إن العدل هو أساس الملك والإصلاح والصلاح..

٭ "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" - رواه الشيخان..

إن المسئولية عامة في الإسلام وهامة جداً..

٭ "الضعيف فيكم قوي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" - أبو بكر الصديق..

قولاً وفعلاً يا أول الخلفاء الراشدين!

٭ "كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك" - عمر بن الخطاب.

ضع نفسك موضع الآخرين دائماً!

(إدارة الوقت)

٭ "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك" - حديث شريف رواه الحاكم وأحمد.

٭ "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"!

(عمرو بن العاص)

٭ "التدقيق في المحافظة على الوقت روحُ العمل"

(........)

(الاقتصاد والمال)

٭ {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} - الإسراء - الآية 29

إنها دستور لكل عاقل!

٭ {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} - الإسراء - الآية 30

٭ "ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده"

الترمذي وغيره

لعل شبابنا يحفظون هذا الحديث الشريف، فإن احترام العمل اليدوي أساس نهضة الأمة.

٭ "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" - رواه الترمذي.

٭ "ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى" - رواه أبو يعلى والعسكري

٭ "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كلَّ ذي نعمة محسود" - رواه ابن ماجة وابن عسكر.

٭ "لينفق ذو المال في ثلاثة مواضع: في الصدقة إن أراد الآخرة! وفي الجود إن أراد الذكر، وفي النساء إن أراد نعيم العيش"

(ابن المقفع)

٭ قيل لأعرابي: ما السُّقْم الذي لا يبرأ؟ فقال: حاجة الكريم إلى اللئيم!

٭ "يا بني، أكلت الحنظل وذقت الصبر فلم أرَ شيئاً أمرَّ من الفقر"!

(لقمان الحكيم)

٭ حكي أن ملكاً رأى شيخاً قد وثب وثبة عظيمة على نهر فتخطاه، والشاب يعجز عن ذلك، فعجب واستحضره وحادثه في ذلك فأراه ألف دينار مربوطة في وسطه!

٭ ٭ ٭

ويعد فهذا فيض من غيض هذا الكتاب، ومما يحمد للمؤلفين أنهما قدما لكل باب بتحليل جيد، ولا زلنا في انتظار الجزء الثاني.

نقلا عن الرياض