يعاني الاقتصاد العالمي ضعفا وبطئا في النمو. موضوع تشغل أخباره وتفاصيله المنظمات الاقتصادية العالمية كصندوق النقد ووسائل الإعلام في مختلف الدول. تختلف الأخبار والتحليلات في تصوير الوضع وكيفية الخروج منه. لكن هناك نوعا من الفهم أن سياسات التعامل مع تضارب المصالح بين الدول التي سادت في الأعوام والأشهر الأخيرة، تلك السياسات شكلت أساسا مهما لما آل إليه الاقتصاد العالمي من ضعف. أنتج ذلك التضارب خلافات ونزاعات وسياسات متباينة. وزادت حدتها مع التطورات التقنية، وما جلبته من تأثيرات نفعت أقواما على حساب آخرين. وهنا نتذكر قاعدة شرعية وعقلانية تشكل مدخلا للخروج. وهي قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار".
ما معنى القاعدة وما دليلها؟
إن أعمال البشر لا تخلو من جلب منافع لأطراف وإحداث مضار لأطراف أخرى. والمطلوب توخي التوسط بين البشر في أعمالهم وتعاملاتهم تعظيما للمحاسن وتقليلا للمفاسد قدر الإمكان. وفي هذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار". وهو حديث نقله جمهور أهل العلم الشرعي، واحتجوا به.
أمثلة لحالات متفرعة من القاعدة: الضرر لا يزال بمثله أو أعلى منه، الضرر يدفع قدر الإمكان، ترتكب أدنى المفسدتين دفعا ومنعا لحدوث مفسدة أكبر، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وفي تقرير صندوق النقد الدولي الدوري "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر الشهر الماضي نصائح للدول بتبني سياسات حقيقتها من قبيل لا ضرر ولا ضرار.
قبل شهور رفعت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية على واردات من الصين، فردت الصين بإجراءات انتقامية. وخفت حدة هذه الأفعال والردود عليها أخيرا. وجاءت مشكلات أخرى تزيد الطين بلة، كجهالة طريقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتوترات جغرافية سياسية في مناطق عديدة من العالم. والنتيجة تراجع في النمو والاستثمار والطلب، والتجارة العالمية. وتتوقع مراكز بحثية عالمية تحسن النمو في العام المقبل مشروطا باستقرار الأوضاع وحصول شيء من تسوية الخلافات التجارية بين الدول الكبيرة المتنازعة.
من جهة أخرى تميل التنبؤات إلى النظرة السلبية. هذه السلبية نتاج تطورات سلبية كتراكم ضعف مالي وضعف حيز متاح لسياسات نقدية تخفف من تأثير التطورات السلبية بعد أعوام من انخفاض أسعار الفائدة.
زادت حدة الأوضاع مع تزايد مخاطر تغير المناخ والمخاطر ذات المنشأ السياسي الجغرافي. ذلك أن كثيرا من السياسات والاستراتيجيات المطروحة تقابلها تلك المخاطر. والنتيجة ضعف في كسب تأييد مجتمعات على نطاق واسع.
ما سبق يفترض أو ينبغي أن يدفع إلى الاهتمام بمسألة الأولوية في السياسات. وهذا الأمر يقود إلى تطبيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
بعد الحرب العالمية الثانية، اكتسبت التجارة بين الدول بعدا قويا وأسهمت في تحريك التقدم والنمو الاقتصادي العالمي. لكن تدابير الحماية في الآونة الأخيرة جاءت لتضعف حركة هذه التجارة.
المطلوب تبني سياسات بين الدول قائمة على تلك القاعدة أو لا تتعارض معها. سياسات عبر عنها مختصون وصندوق النقد الدولي بالاحتواء والتناغم والاتساق. طبيعة هذه السياسات الاستناد إلى تفاهمات وتنازلات مشتركة بين الأطراف. أي الاستناد إلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
فهما لتطبيق تلك القاعدة جاءت مقترحات عدد كبير من المختصين في بحث الدول خاصة الأكثر تأثيرا في الاقتصاد العالمي لتطوير السياسات القائمة بهدف دعم النمو. من ذلك دعوة الدول إلى اتباع سياسات تجارية تقلل مخاطر التطورات السلبية. وفي هذا الشأن تحدثوا عن وسائل لتقليل تراكم المخاطر المالية جراء انخفاض أسعار الفائدة بصورة غير مسبوقة.
موضوع سياسات المالية العامة، أي إيرادات وإنفاق حكومات الدول موضع اهتمام. قاعدة لا ضرر ولا ضرار تدعو إلى مزيد من التوازن في سياسات المالية العامة. توازن بين الدفع تجاه النمو، والدفع تجاه المساواة والاستدامة.
الخلاصة يمكن أن نراها في مقال نشرته جيتا جوبينات مديرة إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي أواخر الشهر الماضي وعنوان المقال: "بطء النمو العالمي يدعو إلى سياسات داعمة". بينت في مقالها أن الحاجة إلى توثيق التعاون العالمي وخفض حدة التوترات التجارية تزداد إلحاحا كل يوم. وقالت إن على الدول أن تعمل معا لمعالجة قضايا أساسية مثل تغير المناخ، والضرائب الدولية، والفساد، والأمن الإلكتروني، والفرص والتحديات المصاحبة للتكنولوجيات الحديثة في مجال المدفوعات الرقمية.