تستهدف البنوك المركزية إجمالا استقرار سعر الصرف. وهذا الاستقرار يجلب فوائد منها محاربة التضخم. لكن هناك اعتبارات أخرى قد تنسجم وقد لا تنسجم في كل زمان ومكان مع مساعي الهدف السابق، كتحقيق تنافسية ونمو اقتصادي وتنويع أعمق لمصادر الدخل.
وقد اختارت بلادنا منذ سنين طويلة التثبيت بالدولار، وهذا الاختيار مكن من استيراد السياسة النقدية لأمريكا المستقرة نسبيا. يقال الكلام نفسه في حال التثبيت بعملة أو مجموعة عملات دول كبرى أخرى تتصف سياساتها النقدية بالاستقرار. ولكن التثبيت يحمل مفارقة أن الدول المصدرة للنفط تستورد السياسات النقدية للدولة المستوردة له.
الحصول على سعر صرف مستقر عبر هذه السنين لم يأت دون ثمن. مثلا، كان الريال مسعرا بأعلى من قيمته التي تعكسها ظروف انخفاض أسعار النفط وارتفاع أسعار الدولار إبان عقد التسعينيات مثلا. حتى عندما خفضت السلطات النقدية السعودية سعر الصرف عام 1986، من 0.29 إلى 0.27 دولار تقريبا للريال "3.5 إلى 3.75 ريال للدولار" فالتخفيض أقل من الرفع السابق في أواسط عقد السبعينيات من نحو 0.22 إلى 0.29 دولار للريال، "4.5 إلى 3.5 ريال للدولار تقريبا". ومعروف حصول انخفاض شديد لأسعار النفط آنذاك، وكان لذلك تبعات على الاقتصاد السعودي.
هل التسعير يتطلب التثبيت بالعملة نفسها؟
النفط مسعر بالدولار. والتثبيت بالدولار يسهل المواءمة أو المطابقة بين إيرادات الحكومة المقوم غالبها بالدولار، والعملة الوطنية.
لكن الكلام السابق نصف الصورة. الجزء الآخر أن أسعار النفط عالية التذبذب. والتثبيت لا يخففه، بل قد يحصل العكس، بزيادة حدة تذبذب إيرادات الحكومة، في حال تدهور أسعار النفط. فمثلا، المحافظة على استقرار سعر الصرف، حينما كانت أسعار النفط متدنية في أواخر الألفية الفائتة، رغم أنها أسهمت في زيادة القوة الشرائية للريال، وانخفاض التضخم آنذاك، إلا أنها أسهمت أيضا في انخفاض الإيرادات النفطية الحكومية بالريال، ومن ثم خفض الإنفاق الحكومي، خاصة على المشاريع وصناديق التنمية. والخلاصة أن الاقتصاد النفطي يدفع ثمنا للمحافظة على استقرار سعر الصرف.
كانت هذه النقطة موضع بحث ودراسة بعض الجهات الأكاديمية والبحثية، انظر مثلا: Exchange Rate Regimes, Inflation and Growth in Developing Countries – An Assessment, The B.E. Journal of Macroeconomics, 2007. الذي حلل قياسيا "باستخدام أدوات الاقتصاد القياسي للسلاسل الزمنية" فترة زمنية سابقة معتبرة، وخلص إلى أن التثبيت الصارم تميز عن أنظمة أسعار الصرف الأخرى بمعدلات تضخم أقل وفي الوقت نفسه معدل نمو اقتصادي أقل.
وتتسبب الصدمات الاقتصادية غالبا في تغيير الظروف. وهنا أشير إلى أن التحليل الاقتصادي النظري والقياسي، يفرق بين تأثير الصدمة المؤقتة وتأثير الصدمة الدائمة. وهذا ما يتفق مع سلوكيات البشر التي نراها يوميا. مثلا، هل الأسعار الحالية للنفط مؤقتة؟ هل تنخفض أو ترتفع الأسعار خلال السنوات القليلة المقبلة بنسبة عالية، مثلا 50 في المائة؟ أم تبقى في حدودها الآن؟ هناك 1000 عامل وعامل مؤثر، ولا أحد لديه القدرة على التنبؤ بحركة هذه العوامل بثقة عالية.
نعرف دخول أمريكا في حروب تجارية مع دول. هل ستتدخل السلطات الأمريكية للتأثير في قيمة الدولار، بهدف خفض العجز التجاري مع دول كالصين؟
كم تبلغ مساهمة الدولار في آخر موجة تضخم مررنا بها؟ هل التثبيت باليورو أنسب من التثبيت بالدولار؟ تصعب الإجابة عن هذه الأسئلة وأمثالها بالتحليل النظري فقط، بل لا بد أن تسند بعمل قياسي empirical work. وقد لا يعطي نتائج موحدة لكل دول الخليج، فمثلا، توصلت دراسة تقنية قياسية، نشرت في يناير 2008، وعنوانها: In The Middle of the Heat: The GCC countries Between Rising Oil Prices and the Sliding Greenback.
إلى أنه لا فرق بين التثبيت بالدولار أو اليورو للكويت أو البحرين، بينما التثبيت باليورو بدلا من الدولار ليس بشرط أنه أحسن بالنسبة للسعودية والإمارات وعمان. وتوصلت الدراسة إلى أهمية ترتيبات وطبيعة التثبيت.
نقلا عن الاقتصادية