دخل مفهوم الحوكمة المؤسسية عالم الأعمال في بداية التسعينات من القرن الماضي، وجاءت قواعده لمعالجة مجموعة كبيرة من المشاكل الأخلاقية والإدارية التي تسببت في إفلاس العديد من المؤسسات حول العالم وفي ضعف أدائها في مختلف الأصعدة. على رأس هذه المشاكل مشكلة تعارض المصالح والتي تضم مجموعة كبيرة من المشاكل الفرعية بين عدة أطراف من داخل وخارج المؤسسة. وفي رأيي إن مشكلة تعارض المصالح مشكلة أخلاقية قبل أن تكون مشكلة إدارية (كمشاكل التنظيم والتوجيه والتخطيط والرقابة)، ولذلك نجد أن العديد من لوائح وأنظمة الحوكمة المؤسسية، سواء في القطاع العام أو الخاص أو غير الهادف للربح، ضمت في مبادئها وقواعدها الإلزامية وغير الإلزامية مجموعة من المبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك التي يجب الالتزام بها من قبل أعضاء الإدارة العليا في مختلف المؤسسات. فعلى سبيل المثال تضمنت المبادئ الرئيسية الثلاث لحوكمة الشركات في تقرير أدريان كادبوري (أبو الحوكمة، وواضع أول تعريف للحوكمة المؤسسية: "النظام الذي يتحقق من خلاله توجيه ورقابة الشركات" في عام 1992، وتقريره تم اعتماده من مجلس العموم البريطاني) مبدأ أخلاقي هام وهو النزاهة (Integrity)، وتضمنت أهداف لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن مجلس هيئة السوق المالية في المملكة العربية السعودية على هدفين أخلاقيين من أصل تسعة أهداف وهما: (1) تحقيق الشفافية والنزاهة والعدالة في السوق المالية وتعاملاتها وبيئة الأعمال، (2) توعية الشركات بمفهوم السلوك المهني وحثها على تبني وتطويره بما يلائم طبيعتها.
تقرير كينغ الرابع (King IV) في الحوكمة
يعتبر تقرير مارفن كينغ (Mervyn King) الرابع عن الحوكمة من أفضل المراجع العالمية في حوكمة الشركات لأنه تم تبنيه من قبل عشرات الدول حول العالم، ونتج عن هذا التقرير، وعن التقارير الثلاثة السابقة، العديد من المبادرات العالمية برعاية الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية حول العالم مثل المبادرة العالمية لإعداد التقارير (Global Reporting Initiative) ومبادرة الأمم المتحدة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للمحاسبة بإنشاء مجلس التقارير المتكاملة الدولي (International Integrated Reporting Committee) وغيرها الكثير، حتى إن العديد من المنظمات المهنية عدلت أجزاء من أُطر عملها بناء على ما ورد في تقارير مارفن كينغ الأربعة، ومنها على سبيل المثال معهد المدققين الداخليين الدولي (IIA) الذي أدخل مجموعة من التعديلات على الإطار المهني الدولي لممارسة أعمال التدقيق الداخلي.
عرف مارفن كينغ (Mervyn King) في تقريره الرابع "الحوكمة" بأنها باختصار: "ممارسة القيادة بأخلاق وفاعلية (Ethical and Effective Leadership) من قبل السلطة الحاكمة في المؤسسة بهدف تحقيق النتائج الأربعة التالية: (1) ثقافة أخلاقية، (2) أداء جيد، (3) رقابة فاعلة، و(4) الشرعية" (المقصود بالسلطة الحاكمة على سبيل المثال مجلس الإدارة أو مجلس الأمناء أو من يقوم بدورهم في المؤسسات المختلفة أو مجلس النظارة/النظار في الأوقاف أو حتى مالك المؤسسة الفردية)، وعرف القيادة الأخلاقية بأنها عبارة عن "خليط من النزاهة والعدالة والشفافية والجدارة والمسؤولية والمسائلة"، وعرف الأخلاق بأنها: "معاملة الآخرين بنفس الطريقة التي تحب أن يعاملوك بها".
احتوى تقرير مارفن كينغ الرابع على سبعة عشر مبدأ للحوكمة و208 من الممارسات الموصى بها موزعة على المبادئ السبعة عشر. ثلاثة من هذه المبادئ ركزت على الأخلاق، وهي:
1) المبدأ الأول: على السلطة الحاكمة في المؤسسة قيادتها بأخلاق وفاعلية.
2) المبدأ الثاني: على السلطة الحاكمة في المؤسسة حوكمة الأخلاق بأسلوب يؤدي إلى تأسيس ثقافة أخلاقية (ethical culture) فيها.
3) المبدأ الثالث عشر: على السلطة الحاكمة في المؤسسة حوكمة الامتثال لكافة الأنظمة والقوانين، والقواعد غير الملزمة، والمعايير بطريقة تؤدي إلى جعل المؤسسة أخلاقية ومواطنة صالحة (ethical and a good corporate citizen) في مجتمع الأعمال.
خصص مارفن كينغ لهذه المبادئ الثلاثة 18 ممارسة أوصى بها، ولا يتسع هذا المقال لتفصيلها جميعها، ولكن سوف أذكر جانب منها، فمن الممارسات التي أوصى بها لتعزيز القيادة الأخلاقية:
1) تمتع جميع أعضاء السلطة الحاكمة في المؤسسة بالنزاهة من خلال:
- التصرف بحسن نية والاهتمام بالمصالح الفضلى للمؤسسة.
- العمل على تجنب تعارض المصالح.
- الأخذ بعين الاعتبار التبعات الأخلاقية لكل قرار وعدم الاكتفاء فقط بالامتثال للأنظمة والقوانين.
- الأخذ بعين الاعتبار أنهم بمثابة القدوة للتصرفات الأخلاقية لجميع الموظفين في المؤسسة.
2)قيام السلطة الحاكمة في المؤسسة بوضع المبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك التي تحكم العمل في المؤسسة، والعمل على تعريف جميع الموظفين وباقي أصحاب المصالح بها وحثهم على الالتزام بها.
3)قيام السلطة الحاكمة في المؤسسة بمراقبة الالتزام بالمبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك.
الرقابة الداخلية وأخلاقيات العمل
كما عنيت الحوكمة المؤسسية بأخلاقيات العمل عنيت أيضاً بالرقابة الداخلية، وبالرجوع إلى أفضل النظم في الرقابة الداخلية في العالم مثل تقرير لجنة المؤسسات الراعية (COSO) التابعة للجنة تريدواي حول الرقابة الداخلية ونموذج مقاييس الرقابة (CoCo) نلاحظ التركيز الكبير على أهمية العناية بأخلاقيات العمل.
المبدأ الأول من مبادئ كوسو للرقابة الداخلية السبعة عشر هو: "أن تبدي المؤسسة التزاما بالنزاهة والقيم الأخلاقية" (القيم الأخلاقية هي نفسها المبادئ الأخلاقية المشار إليها سابقا)، ولهذا المبدأ أربعة نقاط رئيسية تمت الإشارة إليها في هذا التقرير وهي:
1) تضع الإدارة المثل العليا في المؤسسة: يجب أن يبدي جميع أعضاء مستويات الإدارة العليا في المؤسسة أهمية للنزاهة والقيم الأخلاقية، من خلال توجيهاتهم وأفعالهم وسلوكياتهم، لدعم عمل نظام الرقابة الداخلية.
2) تضع المؤسسة معايير للسلوك: يجب تعريف توقعات الإدارة العليا بخصوص النزاهة والقيم الأخلاقية في معايير السلوك الخاصة بالمؤسسة ويجب إدراكها واستيعابها من جميع المستويات في المؤسسة ومن جانب مزودي الخدمة الخارجيين وشركاء الأعمال.
3) تُقيم الإدارة الالتزام بمعايير السلوك: يجب تطبيق عمليات لتقييم أداء الأفراد والفرق في ضوء معايير السلوك المتوقعة الخاصة بالمؤسسة.
4) التعامل مع المخالفات في وقت مناسب: يجب التعرف على حالات مخالفة معايير السلوك المتوقعة الخاصة بالمؤسسة وتصحيحها في الوقت المناسب وباتساق.
في نجد أن نموذج مقاييس الرقابة (CoCo) يحتوي على عشرين مقياساً للرقابة الداخلية، ثلاثة منها تتعلق بالمبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك:
1) يجب إرساء قيم أخلاقية مشتركة داخل المؤسسة وعلى رأسها النزاهة، ويجب التواصل بشأنها وممارستها في جميع أقسام المؤسسة.
2) يجب أن تكون السياسات والممارسات الخاصة بالموارد البشرية في المؤسسة منسجمة مع القيم الأخلاقية فيها وداعمة لتحقيق أهدافها.
3) يجب تعزيز جو من الثقة المتبادلة بين العاملين في المؤسسة بما يدعم تدفق المعلومات بينهم ويدعم فاعلية أدائهم باتجاه تحقيق أهداف المؤسسة.
وخلاصة القول: لا قيمة لنظم الحوكمة بدون الالتزام بالمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها في عالم الأعمال من قبل جميع أعضاء مستويات الإدارة العليا في المؤسسة وجميع الموظفين وباقي أصحاب المصالح الداخليين والخارجيين وفي ظل وجود بيئة ومناخ أخلاقي يدعم الالتزام بها من كافة الأطراف.
الرغبة في تعظيم العوائد والأرباح لا تتعارض أبداً مع التعامل الأخلاقي مع جميع أصحاب المصلحة، وأي تحقيق للمكاسب من العمل بطريقة لا أخلاقية هي مكاسب قصيرة الأجل، حيث تعتبر المبادئ الأخلاقية أيضا أحد الأدوات المستخدمة في مكافحة ومحاربة الاحتيال بأنواعه الثلاث (الفساد، والاختلاس والتلاعب بالمعلومات) والقضاء على الممارسات اللاأخلاقية، كما نجد أن الالتزام بها أصبح من أحد المؤشرات المستخدمة في تقييم القدرة التنافسية للأعمال المؤسسية واعتبارها مكون استراتيجي لبقاء واستمرارية الأعمال، وبالتالي تعزيز المبادئ الأخلاقية في المجتمع ككل.
وكما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي شعراً: "وإِنَّمَـا الأُمَـمُ الأَخْـلاقُ مَا بَقِيَـتْ *** فَـإِنْ هُمُ ذَهَبَـتْ أَخْـلاقُهُمْ ذَهَبُـوا" أقول نثراً: إن بقاء ونمو المؤسسات في مختلف القطاعات وتحقيق التكامل بين مصالح جميع أصحاب المصالح يعتمد بشكل أساسي على تبني وممارسة أعلى المستويات في أخلاقيات العمل.
خاص_الفابيتا