صندوق الاستثمارات العامة : لابد من مراجعة

02/11/2018 10
فواز حمد الفواز

سبق وان كتبت عن الصندوق اكثر من مرة ولكن طرأت مستجدات مهمة و خاصة بعد ما هدأت العاصفه الاعلامية المسمومة وتداعياتها السياسية والاقتصادية ونجاح المملكة ممثله بالصندوق في مؤتمر الاستثمار في استقطاب شخصيات مؤثرة من دول وشركات وتدشين لاستثمارات عديدة حجما وكيفا. ليس هناك مفاجأة في ثبات القيادة والتلاحم الشعبي مع القيادة لحماية الوطن. ولكن كما يقول العرب : ربّ ضارة نافعة .

قرأت و عرضت كتاب الدولة الريادية و اتيح لي فرصه الاستماع والنقاش مع استاذ التنمية الاقتصادية في جامعة كمبريدج المفكر الكوري Ha-Joon Chang اثناء زيارته للمملكة والان اقرأ وأعرض كتاب : الرأسمالية دون رأس مال. واستمعت وتحدثت مع البعض في الندوة الناجحة لمبادرة استثمار المستقبل ، أعدت التفكير في تجربة الصندوق ونهجه الجديد .

في الماضي كان الذراع الاستثمارية للحكومة تحت رعاية مباشرة من وزارة المالية ، قام أثرها بدور كبير في الاستثمار الصناعي  ممثلا في سابك وغيرها والبنية التحتية للصناعة مثل المدن الصناعية ، تلا ذلك الدخول في حالة سبات عميق وصل حد الإهمال الحميد للحوكمه ومن ثم نقص حاد في الاستثمارات على مدى عقدين تقريبا .

في هذه الأثناء استمرت مؤسسة النقد ممثلة في ادارة الاستثمارات الخارجية باقتباس دور الذراع الاستثماري ( بمثابة الصندوق السيادي للمملكة و لكن في سوق الاوراق المالية فقط  حيث المخاطر محدوده حين عملت وقتها في ادارة الاستثمارات الخارجية ) ولذلك كانت الادارة تقوم بدورها من منظار البنك المركزي وليس من منظار الصندوق السيادي كما تطورت الفكرة في بلدان كثيرة لاحقا.

فحين توقف الصندوق عن دوره الاساس في تنمية وتطويرالاستثمار المباشر وخاصة الصناعي ، إذ استمر فريق صغير صاحبه نقص في التفاعل مع استحقاقات الحوكمة وتطوير القدرات التحليلية، فاصبح مستثمر غير نشط أو متفاعل ، لذلك جاء النهج الجديد كردة فعل عكسية مفهومه لتفكيك هذه الهيكلية التي لم تعد تخدمنا ولكن في تعجل حيث حاول تعويض النقص في تأسيس صندوق سيادي مع الحاجة لإعادة تنشيط وهيكلة الصندوق ونقص في الاستثمارات وفي القدرات المعلوماتية والتحليلية في اغلب الوزارات في ظل أوضاع مالية ضاغطه  ومبادرات في عده قطاعات  يصعب الربط بينهم.

يصعب على الصندوق القيام بالدورين على الاقل في السنوات القليلة القادمة . الإرهاصات الاخيرة حول الاستثمارات الخارجية والتفاعل الدولي  في نظري تشكل نقطة " تذكير " للمراجعة الداخلية. هنا يجب ان نفرق بين العابر ( الظروف الحالية ) والمستدام ( الحاجة للاستثمارات الصناعية داخليا ).

هناك مسببات موضوعه للأخذ بالمستدام وترك العابر . الأمثل التركيز على الاستثمار الداخلي الصناعي وتخفيف التوجه نحو صندوق سيادي يستثمر في الخارج على الاقل لحين تحقيق فائض مالي مقنع، ليس هناك ما يمنع اي خيار شرط السيطرة على التنسيق والتسلسل . الاستحقاق الاقتصادي ان نركز على الصناعة . 

من أعراض النقص في دراسة الاقتصاد السعودي عدم " الدقة " في غياب دراسات تحليلية حول معادلة الاستثمار كحصة من المصروفات العامة حجما وكيفا، تم بعض المحاولات الجادة مثل تجربة مركز كفاءة الطاقة وبالرغم من نجاحها في تقنيين معايير الوقود للسيارات والتكييف وغيره ، الا انها أظهرت مدى الصعوبة العملية في مواجهه مصالح قطاع خاص تعود على سهولة التجارة من خلال الوكالة ومستهلك اعتاد على خلل في سياسات الدعم الغير ممنهج ، بذل سمو الامير عبدالعزيز بن سلمان وفريقه عمل مؤثر لخلخلة هذه المنظومة وتأسيس  لمعايير اقتصادية  اكثر فعالية ( أنا عضو في الهيئة الاستشارية ) .

لعل وحدة المحتوى المحلي تعيش صراع مشابه الان في دهاليز الصعوبات التحليلية و المصالح وحتى احيانا عدم التعاون ( ربما تتعلم الوحدة من تجربة مركز كفاءة الطاقة - ناحيه لا نجيدها عادة ) . فحجم الاستثمارات يتذبذب بدرجة من الحدية من ناحية ولايفرق تحليليا بين الاستثمارات الصناعية والبنية التحتية والإنشائية والخدمية ، بل ان ربما ان جزء مؤثر من الاستثمارات يتم في قطاع الإنشاءات ذات المردود المحدود كمركز الملك عبدالله المالي ( لم يبدا من صندوق الاستثمارات و لكن مسؤولية التفكير الجمعي اهم ).

كما ان مستوى هذة الاستثمارات كحصة من الميزانية نسبيا قليلة مقارنه بالدول التي في نفس حجم ومرحلة مشابهه للمملكة، بل ان النمو السكاني العالي يتطلب ان تكون المملكة في درجه اعلى، فمن لا يستثمر لا ينمو وحتى هذا لايكفي إذ لا بد من جودة في الاستثمار . كما ان هناك غياب للربط تنظيميا فمثلا يواجه برنامج التوازن الاقتصادي ضعف في الربط مع التوجه لصناعة السلاح والعلاقة مع وكالة الطاقة لشؤون الصناعة ومحدودية دور وزارة الاقتصاد في توجيه الموارد. فمن لا يستثمر لا ينمو ومن لا يدقق سوف يبحث عن نافذه للعلاقات العامه ولكن  دون قيمه مضافة .

من المسببات الموضوعية ما يتماشى مع اعلان وزاره المالية عن عجز متوقع حتى مع ارتفاع اسعار النفط منذ بداية العام المالي الجاري نظرا لارتفاع النفقات العامه و تزايد الاقتراض ( الدين العام لازال في مستوى مسيطر عليه ) ولكن تواصل العجز والاقتراض في ظل ارتفاع الفوائد يحتم اعادة الخيارات وترتيب الاولويات ( بلغ حجم الدين العام في نهاية الربع الاول من 2018 ,129 بليون دولار منها 55 بليون بالدولار ) وفي تصاعد طبقا لتوقعات وزارة المالية إذ يقدر بحوالي 200 بليون دولار في نهاية 2020, لا تزال النسبة مقبولة  كنسبة من الدخل القومي الاجمالي مقارنه باغلب دول مجموعه العشرون ولكن التوجه ليس صحي، لنا ان نفتخر بارتفاع الميزانية ولكن لابد ان يتوازن ذلك مع المخاطر المترتبة على زيادة تكاليف ادارة الحكومة. من الاولويات إعاده درجة من التوازن بين الاستهلاك و الاستثمار بما يتناسب مع الاستدامة الصحية ماليا واقتصاديا، منها أيضاً الحاجه الماسة لمستوى اعلى حجم وتركيز في الاستثمارات العامة وخاصة الصناعية.

للحق هناك حراك نحو الافضل ولكن يصعب فرز الدوري عن الهيكلي بسبب ارتفاع النفط من ناحيه ومدى الحاجه لتحول مؤثر يتماشى مع استحقاقات الرؤية في التحول الاقتصادي و محاولة عمل  مبادرات غير واضحه العوائد . التركيز على الصناعه يؤسس لحجر زاوية و تأطير ونقطه انطلاق ، هذه الابعاد لا تتوفر في محاولة عمل كل شي في كل مكان بموارد محدودة ماديا و بشريا. الروابط الراسية خاصة وحتى الأفقية تكون اكثر وضوحا في البناء الصناعي واختبار حقيقي للتنافسية محليا ودوليا.

عمليا القدرة على تقليل الاستهلاك ( ممثلا في مستوى الرواتب كنسبة من الميزانية ) محدود لاعتبارات اجتماعية و محافظة على مستوى الطلب العام في الاقتصاد . لذلك علينا اعادة النظر في توزيع الاستثمارات من الخارج للداخل بحيث تكون اغلب توجهات الصندوق من الاستثمارات في الخارج الى الصناعه داخليا، وكذلك اعادة توزيع الاولويات الاستثماريه قطاعيا من السياحة الى الصناعة، فمثلا تجربة المدن الاقتصادية تحتاج مراجعه بدلا من زيادة الرهان، الاولى ان لا ننشغل بهندسة ماليه مثل طرح ارامكو او استحواذ ارامكو لسابك دون قيمه اقتصادية .

جاء حديث وزير الطاقة الاخير عن التوسع في صناعة التعدين في الاتجاه الصحيح  ولكن دعوته للقطاع الخاص لن تجد إذن صاغية دون قيادة القطاع العام لقيادة الاستثمارات من قبل معادن او شركات عامه اخرى بنفس المستوى . كما ان الدعوه لاستثمارات خارجية رأسماليه مباشره في المملكة سوف تكون محدودة خاصة دون جهد منظم استثماري متواصل داخليا لزياده السعه مؤسساتيا ماديا و بشريا، وجزئيا غير مفهومه بينما نحن نستثمر في الخارج .

لدى المملكه السعه الكافية فهي ليست مثل اغلب جيرانها. هناك نوعين من الاستثمارات الخارجية، الاول الاستثمارات المالية الاحتياطية لحماية الواردات والاستقرار المالي والنقدي وهذه سوف تستمر تحت رعاية مؤسسة النقد، واخرى اصغر بكثير وهادفه  لنقل التقنية والتكامل مع التوجهات التصنيعية للمملكه من خلال الأذرع الصناعية او متخصصه مثل توسع ارامكو في التكرير عالميا، كما لآرامكو دور مؤثر في التحول الذي يحدث في " تصنيع " النفط بيتروكماويا، إذ ان هناك توجهات عالمية في توظيف النفط صناعيا فمثلا يوظف حوالي 14 مليون برميل في إنتاجها عالميا وهذا احد الفرص التي بدأت سابك في التخطيط لها و تتجه لها ارامكو ايضا .

من المسببات الموضوعية التهرب عن قياس الانتاجية ( في هذا الصدد سبق وان نشرت على موقع " أرقام " مقال موسع عن هذا الموضوع الحيوي : وزاره العمل .. الأجدى سياسه بشرية وليس عماليه ) ، إذ ان الربط بين اعادة الاصطفاف البشري والعمالي يصب في التركيز على الصناعه على اكثر من صعيد وخاصة في المحتوى العلمي والمعرفي للجميع . هناك تقاطع اخر في الحاجه لزياده سعة الاقتصاد على اكثر من صعيد ولكن هذا يتم فقط من خلال التجربة التصنيعية بالاستكشاف والتصحيح  وارتفاع الثقة . هذه المواءمة بين التوجهات الصناعية وترتيب " سوق " الطاقه البشرية محورية. لابد من الاشارة الى ان هناك جهود في المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية و لكن هذه تكميلية وسوف تزداد زخم واهمية في حالة توجه مركز نحو الصناعة .

أخيرا جاء التباطؤ في التخصيص ليصب في الاتجاه الصحيح بسبب النقص في المنظومه المؤسساتيه من ناحية و تردد القطاع الخاص في الاستثمار البعيد المدى ومخاطر التخصيص دون وعاء مؤسساتي مختلف نوعيا كما أثبتت التجارب في روسيا و مصر .

لازلنا أسرى لمنظومة فكرية قديمة وبصراحه غير مناسبه لحالتنا الماليه ومرحلتنا الاقتصادية والبشريه عرابها لم يعد في الادارة التكنوقراطيه ( سبق ان كتبت عنها في مقال عنوانه : ما هكذا تورد الإبل، نشر في موقع أرقام بتاريخ 8 سبتمبر 2017 ) . زاد من العتمه التنظيمية تقليص وزاره الصناعه مما أعطى رساله بالاهتمام " بالمال " على حساب الاقتصاد . الربط بين الصناعه والطاقة له ما يبرره لان مادة اقتصاد المملكه في الطاقة و لكنه ليس تعبير عن التوجه . لا نريد الخوض في كيف وصلنا لهذه التوليفه فهذه تبقى للمؤرخين .

ولكن هناك امل كبير تجلى من خلال كلمات ولي العهد في ندوة الاستثمار حين رفع راية التحدي التنموي والاقتصادي  ماديا و معنويا و حتى عاطفيا - حمل سمو الامير الشعلة ، ما بقي للبقية الا ان يدخلو في نقاش صريح عن الاولويات و الخيارات وعدم الأخذ بالسهل على حساب المطلوب بسبب الضغط الطبيعي للتكيف والعلاقات العامه . على العربي الجديد مصارعه النزعة التجارية والأخذ بالأمانه الفكرية والصناعة وليس الهروب للإمام من خلال خطط مبهمه .  ان اعادة تأهيل الاقتصاد تتطلب الرجوع الى الأساسيات .

فنحن دولة ناميه قليلة المحتوى الصناعي وضعيفة الانتاجية ، الاحرى ان يقود  صندوق الاستثمارات العامة توجه مركز نحو التصنيع في المملكه . لذلك لابد ان تتمحور السياسة الماليه ( استثماريا ) والاقتصادية حول هذا الاستحقاق. لابد ان تكون هناك استراتيجية استثمارية متزنه ومباشره على درجه من الثبات والترابط الراسي والافقي  والاستقلال عن السياسات المالية . لدى " الرؤية " من السعه والمرونه ما يكفي لإعادة التركيز صناعيا وبشريا، لن تكون المهمه سهلة ولكن التخلي عنها سوف يرفع المخاطر لا محالة. الفرصة التاريخية في توفر القيادة  الطموحه و المال والقاعدة البشرية والمادية قد لا تتوفر مره اخرى .

خاص_الفابيتا