بداية؛ أظهر التقرير الربعي لأداء الميزانية العامة للدولة الربع الأول من السنة المالية 2018 ارتفاع إجمالي الإيرادات بنسبة 15.4 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ليستقر إجمالي الإيرادات عند 166.3 مليار ريال، ونمت الإيرادات النفطية بنسبة 1.7 في المائة (113.9 مليار ريال)، فيما نمت الإيرادات غير النفطية للفترة نفسها بنسبة 63.1 في المائة (52.3 مليار ريال). في المقابل؛ ارتفع إجمالي المصروفات الحكومية بنسبة 17.8 في المائة (200.6 مليار ريال)، مسجلة ارتفاعا في جانب المصروفات الجارية بنسبة 23.7 في المائة (174.6 مليار ريال)، مقابل انخفاضها في جانب المصروفات الرأسمالية بنسبة 10.8 في المائة (26.0 مليار ريال).
أفضت تلك التطورات في جانبي الميزانية (الإيرادات، المصروفات) إلى ظهور عجز مالي تجاوز 34.3 مليار ريال، تم تمويله عن طريق الاقتراضين الداخلي والخارجي دون أي سحب من حساب الاحتياطيات، وترتبت عليه زيادة في رصيد الدين العام بنحو 40.2 مليار ريال، من مستوى 443.3 مليار ريال في نهاية الربع الرابع من 2017 إلى نحو 483.7 مليار ريال بنهاية الربع الأول من العام الجاري، توزع رصيد الدين العام بنسبة 57.4 في المائة كدين داخلي (277.4 مليار ريال)، وما نسبته 42.6 في المائة كدين خارجي (206.3 مليار ريال)، ووفقا لما أظهره مسار تمويل العجز المالي طوال الفترة الماضية، أنه ظل يقلل الاعتماد على الاقتصاد المحلي مقابل زيادة الاعتماد على الأسواق العالمية، ما خفف بدوره من مزاحمة القطاع الحكومي للقطاع الخاص على السيولة المحلية، مستفيدة المالية العامة من التصنيف المرتفع للاقتصاد السعودي خارجيا، والثقة الكبيرة التي يحظى بها الاقتصاد في الأسواق العالمية.
عكس تنامي الإيرادات غير النفطية، زيادة قدرتها على تغطية المصروفات الحكومية، التي وصلت نسبة تغطيتها لإجمالي المصروفات الحكومية إلى 26.1 في المائة بنهاية الربع الأول 2018، مقارنة بنسبة 18.8 في المائة للفترة نفسها من العام الماضي، ووصلت نسبة تغطيتها للمصروفات الجارية فقط إلى 30 في المائة، مقارنة بنسبة 22.7 في المائة للفترة نفسها من العام الماضي. وعلى الرغم مما قد يشكله ذلك التنامي في التدفقات الداخلة على الإيرادات الحكومية من نافذتها غير النفطية، من ضغوط وتحديات جسيمة على كاهل الاقتصاد المحلي (القطاع الخاص، المجتمع) في الأجلين القصير والمتوسط، إلا أنها في الوقت ذاته ستشكل في الأجل الطويل جدارا منيعا يحمي الاقتصاد من الآثار السلبية الوخيمة للاعتماد المفرط على دخل النفط المتذبذب، ولا مجال هنا للمفاضلة بين: (1) قبول أوضاع اقتصادية مستقرة لعدة سنوات قليلة، نتيجة تعطيل العمل بالإصلاحات الهيكلية اللازمة، ستكون نتائجها وخيمة جدا ومؤلمة أكثر بعد نهاية تلك السنوات القليلة، كنتيجة حتمية لاستنزاف كامل الاحتياطيات، بعد توظيفها بالكامل لأجل سداد عجز المالية العامة! (2) الضلوع في تدشين وتنفيذ إصلاحات هيكلية وإن بدت قاسية بعض الشيء لعديد من السنوات (قصيرة ومتوسطة الأجل)، مقابل نيل اقتصاد أكثر عافية وبصورة مستدامة في الأجل الطويل، وهو المعمول به خلال المرحلة الراهنة، الذي وضع أحد أهدافه الطويلة الأجل، أن تتمكن الإيرادات غير النفطية من خلال تناميها المتدرج حتى حلول 2030، من الوفاء بتغطية كامل المصروفات الحكومية، دون النظر إلى ما ستكون عليه أسعار النفط العالمية، وهو الهدف الذي يمنح الاقتصاد الوطني ثقة أكبر في مستقبله، بعيدا عن الرهان غير المؤكد على تحسن أسعار النفط من عدمه في الأجلين المتوسط والطويل.
إن التوازن المعمول على تحقيقه بين الوصول إلى ميزانية حكومية مرشدة من جانب، ومن جانب آخر استمرار المالية الحكومية في أداء دورها الداعم للنمو الاقتصادي وترسيخ استقراره، من الطبيعي جدا أن يواجه عقبات وتحديات عديدة ومختلفة، وهو ما أظهرته السياسة المالية منذ بدء تراجع أسعار النفط عالميا مع منتصف 2014، ففي الوقت الذي شهد الاقتصاد تراجع نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 32 في المائة بنهاية 2016، مقارنة بنسبة 39.9 في المائة خلال 2015، وما نتج عنه من تباطؤ للنمو الاقتصادي وللقطاع الخاص، سرعان ما تفاعلت السياسة المالية بهدف دعم الاقتصاد والقطاع الخاص تحديدا، لتعود تلك النسبة للارتفاع مرة أخرى إلى 36.2 في المائة بنهاية 2017، ويتوقع أن تستقر مساهمة الإنفاق الحكومي إلى الاقتصاد الوطني عند تلك المستويات، إلى أن يظهر الاقتصاد والقطاع الخاص تحديدا ما يشير إلى ارتفاع قدرته على تحمل تراجع تلك النسبة، وإثبات زيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي عموما، وعلى مستوى زيادة قدرته في مجال تنويع قاعدة الإنتاج المحلية وإيجاد مزيد من فرص العمل أمام المواطنين والمواطنات على وجه الخصوص.
ختاما؛ تجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أهمية الإسراع في زيادة كفاءة تحصيل عوائد الرسوم على الأراضي البيضاء (الأصول الخاملة دون إنتاج)، والعمل على تسريعها بالدرجة التي تعادل على أقل تقدير سرعة التحصيل الخاضعة لها منشآت القطاع الخاص (الأصول المنتجة والموظفة للعمالة الوطنية)، الذي سيؤثر التأخير فيه سلبا في الأداء الاقتصادي بشكل عام، وفي منشآت القطاع الخاص بوجه خاص، عدا أن النجاح في زيادة كفاءة تحصيل تلك الرسوم على الأراضي البيضاء، سيسهم في زيادة التدفقات الداخلة على الإيرادات الحكومية، فإنه سيسهم أيضا في انخفاض تكلفة الإنتاج على منشآت القطاع الخاص، نتيجة انخفاض الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات وتكلفة إيجاراتها، ويحسن من هوامش أرباحها، التي تواجه ارتفاعا في تكاليفها الأخرى. ولا تقف النتائج الإيجابية عند ذلك الحد؛ بل تتخطاه إلى انخفاض تكاليف المعيشة على عموم أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين على حد سواء، إذ سيخفف كثيرا انخفاض تكلفة إيجارات مساكنهم أو أسعار امتلاكها من الضغوط المعيشية الراهنة، ويسهم في الأجلين المتوسط والطويل في تحسن مستوياتهم المعيشية بنسب كبيرة. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية