إذا زرت مدينة أمريكية سترى مالك المنزل أو صاحب المتجر الأمريكي يُخفي سلك كهرباء ولا طفل لديه، وتراه وقد أرسل مندوباً ليزيل الثلج ويرش الملح في الجوار لكي لا يتزحلق عابر سبيل. ولا يعتقد أي أحد، أن هذه المسئولية الفردية هي ثقافة فطرية، بل هي سلوك نابع في الأصل من خوف العقوبات المالية العظيمة. فالمحامون وشركات المحاماة سيتنافسون لنصرة المسئولية الفردية المضيعة بإهمال فرد، لا حباً للمتضرر ولا كرها للمتسبب، ولكن طمعاً في اقتسام غنيمة مُحتملة. وهكذا هو الحال نفسه في السوق الأمريكية الصناعية والخدمية.
وعلى الرغم من الطبيعة المادية المحضة وصورتها الاستغلالية، لهذا النظام الرقابي الصارم إلا أنه استطاع عموماً أن يخلق في المجتمع الأمريكي ثقافة طبيعية أصيلة بالشعور بالمسئولية الفردية والاجتماعية والسوقية.
هذا النظام الرقابي هو شكل من أشكال التخصيص. فالتخصيص هو تخفيف اعتماد المجتمع على الحكومة، بمشاركة المجتمع في حمل أعباء تعاملاته وحاجياته، وذلك بالتخطيط والتفعيل لمجموعة استراتيجيات تنطلق من فن استغلال الفطرة الإنسانية والقوانين السوقية والسنن الاجتماعية، لتوظيف الإمكانيات البشرية في المجتمع بما يتناسب مع موارده الاقتصادية، بشكل يحقق الانتاجية الأمثل للمجتمع. وليست الخصخصة مجرد عملية تسليم موارد المجتمع للقطاع الخاص، بطريقة تضيع فيها إمكانيات المجتمع البشرية، وتنتهب موارده وخيراته.
تعتبر الرقابة الطبية في أمريكا من الأمثلة الناجحة لخصخصة الرقابة الحكومية، والتي تبدو للنظرة القاصرة أنها خصخصة مرتفعة التكلفة، بينما حقيقة الأمر على عكس ذلك. ففاتورة العلاج الأمريكية هي الأغلى بلا منازع عالمياً على مستوى الفرد، والأضخم على الإطلاق. فهل كانت ضخامة التعويضات للأضرار الطبية، هي السبب في التكلفة الطبية، كما جادل الرئيس بوش قديماً في محاولة منه لوضع حد للتعويضات، مما سيؤدي إلى قتل نظام الرقابة الطبية.
ورمي بوش بتهمة ارتفاع تكلفة الصحة على ضخامة التعويضات، اتهام غير صحيح من الناحية الحسابية المحضة. فمجموع التعويضات والتكلفة الإدارية والقانونية لن تتعدى بوليصات التأمين على الأخطاء الطبية والتي تبلغ 55 ملياراً سنوياً! وهذا يعني أنها أقل من 2 في المائة من الإنفاق الطبي الأمريكي السنوي المقارب لثلاثة تريليونات دولار. وهذه التكلفة ستكون موازية لتكلفة أي جهاز رقابي فيدرالي ليقوم بمهمة رقابة الأخطاء الطبية. وفي اعتقادي، أنه من الصواب القول إن تكلفة التأمين على الأخطاء الطبية هي تكلفة تحقيق دافع الجودة، وأما ارتفاع الفاتورة الطبية فهي آتية من تكلفة تحقيق الجودة ذاتها.
فالجودة غالية، ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر. والجودة في ذاتها لها تكلفة عالية، إلا أن عوائدها تعود أضعافاً مضاعفة على تكلفتها. فإنفاق المجتمع الأمريكي ثلاثة تريليونات على الصحة، جاء بسبب التنافسية الإيجابية في المجال الصحي التي حققت هدف التخصيص في جانب التقدم والتطور في صناعة التكنولوجيا الطبية والعلوم والأدوية. والدافع التنافسي كان من أجل تحقيق جودة وكفاءة أعلى، تستطيع تحقيق أرباح أعلى لتغطية تكلفة الأخطاء الطبية وتخفض أسباب وقوعها.
أما إذا نظرنا نظرة تحليلية عميقة لاتهام بوش للتعويضات بأنها السبب في التكلفة الطبية، فسنستطيع أن نقلب الاتهام فنثبت بأن هذه التكلفة قد جاءت بعوائد سنوية تجاوزت خمسة آلاف بالمئة.
فهذه الاستراتيجية التخصيصية هي التي أوجدت صناعات جديدة متنوعة في التأمين وفي الطب وفي القضاء، والتي بدورها حققت هدف التخصيص في خلق ملايين من الوظائف الجديدة في المجتمع. كما أنها أدت لتحقيق الاقتصاد المعرفي بفتح آفاق فكر جديد أدى لنمو التطور في مستوى علوم الطب والقضاء والتأمين والقوانين الطبية ومعاييرها. وهذا كله أدى لزيادة الناتج المحلي الأمريكي زيادة دائمة والذي يشكل الإنتاج الطبي فيه 18 في المئة بالإضافة للمعامل التضاعفي الناتج عن هذه النسبة.
ومن أهم أسباب قوة هذه الاستراتيجية التخصيصية أن الوسيلة المستخدمة وسيلة قضائية، وهي بنفسها كذلك أداة ضبط عملية التخصيص وتطبيقاته من الانحراف والفساد.
والمقصود: أن هذا النظام الرقابي الطبيعي هو شكل من أشكال التخصيص الناجح. فالموارد الاقتصادية في المجتمع، غنيمة شهية لا قوة لها ولا حول، فهي تحتاج لرعاية وحفظ وإدارة. والقطاع العام لن يكترث بشيء من ذلك، فليس له فيها من نصيب، والقطاع الخاص إن قدر عليها فلن يدعها تفلت من أنيابه، فلا تُترك الموارد في رعاية غير المُكترث، ولا يُسلم الذئب رعي الغنم؟
نقلا عن الجزيرة