السبت 4 نوفمبر كان يوما مباركا في تاريخ السعودية عندما بدأت حملة مكافحة الفساد بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الشاب الشجاع الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، حيث قاما حفظهما الله بإجراءات واضحة وجادة في محاربة الفساد من القمة، وذلك عندما تم التحفظ على عدة شخصيات معروفة محليا، وبدء التحقيقات معهم ومواجهتهم بالأدلة. سمو الأمير محمد وعد في مقابلته مع توماس فريدمان والتي نشرت في جريدة النيويورك تايمز بأن تنتهي المسألة مع نهاية السنة الحالية، حيث ذكر بأن 95% من المقبوض عليهم قبلوا بالتسوية وإعادة الأموال التي حصلوا عليها بشكل غير شرعي، والبقية بعضهم أنكر التهم، والبعض الآخر طلب حضور محاميه.
مسألة قبول النسبة الكبرى من المتحفظ عليهم بالتسوية وإعادة الأموال يعتبر نجاحا مميزا للقيادة في محاربة الفساد من القمة، ليحقق نصرا في مدة محدودة جدا مقارنة بأحداث مماثلة في دول ومناسبات أخرى، مما يفتح المجال لتعجيل بدء الخطوة التالية بمتابعة خيوط الفساد المتصلة بشبكات على المستوى الأدنى، بالإضافة إلى التعامل مع البيئة الحاضنة له التي تشكلت العقود الماضية حول عنصر مهم في القطاع العقاري وهو الأراضي البيضاء.
جميعنا نتذكر قرارات خادم الحرمين الشريفين مع بداية سنة 2015 عندما تم إقرار رسوم الأراضي البيضاء وإعادة هيكلة وزارة المالية، وذلك بفصل الصناديق الاستثمارية الحكومية منها، وإعادة الوظائف الاقتصادية التي كان لها تأثير رئيسي على توجه وهيكل الاقتصاد إلى وزارة الاقتصاد والتخطيط، هذه القرارات لم تأت من فراغ، فبحسب تصوري أنها متصلة تماما بمجهودات القيادة لمحاربة الفساد من جذوره وليس فقط بظواهره.
المسألة ببساطة أن الأراضي لم تكن لتلقى رواجا لولا البيئة الاقتصادية التي تشكلت حولها مع بداية الثمانينات، فالنمو الاقتصادي كان يتم التحكم فيه عن طريق الصرف الحكومي والدعم الحكومي والتحكم بالأسعار، والمدخرون لم يستطيعوا الوصول للسندات الحكومية، وكان السلوك الادخاري للأفراد يتم التأثير عليه من أطراف متعددة بترويج الأراضي البيضاء لهم كالوسيلة الادخارية المثلى في ظل التوسع الأفقي للمدن، والذي كانت تتبناه مؤسسات حكومية معينة بشكل لافت للنظر، حيث كنا نتعجب دائما لماذا يتم السماح ببناء دورين فقط للوحدات السكنية في الرياض وأكثر من ذلك في جدة!
صناعة الأراضي البيضاء ليست بالسهولة التي نتخيلها فقدت تطورت بشكل يشبه أسواق السندات «الدخل الثابت» في الدول الأخرى، وتجاوزت قيمتها مئات المليارات بحسب بعض الصحف، حيث يوجد تجار الجملة أصحاب الأراضي الخام، يتعاقد معهم مطورو أراض يقومون بعمل المزادات لها ليتم بيعها على شكل بلوكات للوسطاء، والذين بدورهم يقومون ببيعها تجزئة للمواطنين سواء للادخار أو للبناء. أدعو للمشاركين بالبركة والتوفيق فهي ممارسة تجارية قانونية بحتة، ولكن بعض المستثمرين مع هؤلاء المطورين يعملون في مصالح حكومية مختلفة لا أستبعد أنهم قدموا تسهيلات لبعضهم غير نظامية.
استمرار ظروف البيئة الاقتصادية التي أشرت لها مسبقا سيجعل من محاربة الفساد في القمة والقاع أمرا صعبا لاحقا، لهذا من الجيد أن تستعجل وزارة المالية في خططها لطرح الصكوك الحكومية للأفراد خلال السنة القادمة لكي توفر البديل الادخاري المناسب، ومن ثم استمرار خطط وزارة الإسكان على خطتها في التوسع الرأسي بدلا من الأفقي، وحث وزارة البلدية على إيقاف التوسع الأفقي للنطاق العمراني والتركيز على التوسع الرأسي في المدن، بالإضافة إلى التعامل بجدية أكبر مع مسألة تطوير ممارسات التخطيط الحضري للأراضي الخام لإيقاف ممارسات الفساد المحتملة للأراضي البيضاء.
نقلا عن مكة