هل يشهد العالم تحولات نوعية في أساليب الإنتاج، وهل هناك نشاطات اقتصادية أصبحت خارج سياق الحياة الاقتصادية في الكثير من بلدان العالم، خصوصاً البلدان المتقدمة؟ الإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من أن يكون «نعم»، إذ إن التطورات التقنية وتطور أنظمة الكمبيوتر، أو الأتمتة، نقلت الحياة إلى مستويات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة قبل زمن قصير قد لا يتجاوز العقدين. هذه التطورات أو ما أطلق عليه عدد من الاقتصاديين تسمية «مرحلة الثورة الصناعية الرابعة»، ربما جعلت إمكانات الإنتاج أكثر كفاءة وأقل كلفة، لكنها في الوقت ذاته أوجدت أوضاعاً اقتصادية واجتماعية جديدة. ويمكن الآن إنتاج السيارات والأجهزة المعمرة والطائرات اعتماداً على آليات وأدوات إنتاج متطورة مثل الروبوتات، تعتمد على برامج مدققة تهدف إلى تجاوز الأخطاء البشرية وتقلل من الاختلالات أثناء العملية الإنتاجية.
لم يقتصر الأمر على عمليات الإنتاج الصناعية ولكن هناك التطورات غير المسبوقة في أنظمة المصارف والمؤسسات المالية وعمليات التسويق وأعمال الخدمات المتنوعة. ولا شك في أن هذه التحولات دفعت إلى الاستغناء عن الكثير من العاملين في النشاطات المختلفة. على سبيل المثال، شهد قطاع خدمات السفر والسياحة تحولات مهمة في عمليات الحجز، إذ أصبح بالإمكان حجز المقاعد على الطائرات أو الغرف في الفنادق أو السيارات المستأجرة من دون حاجة للجوء الى وكالات السفر أو مكاتب السياحة، وتوافرت مواقع على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) لتوفير هذه الخدمات بيسر. ولذلك اختفى الكثير من وكالات السفر وما تبقى منها ظل يواجه مصاعب في تحقيق الإيرادات والعائد.
هناك أيضاً ما جرى في ميدان الخدمات العلاجية، حيث توافرت إمكانات لفحص الأمراض وتشخيصها من خلال الأجهزة الحديثة وبدقة أفضل من التشخيص الطبي القديم وتحديد نوعية الأدوية المناسبة.
ولا شك في أن هذا التطور مكن الصناعات الطبية من تحسين قدراتها على مواجهة متطلبات العلاج، يُضاف إلى ذلك ما تحقق في ميدان التعليم في التخصصات الطبية والصيدلانية. وأصبح الآن بإمكان المرضى قياس ضغط الدم ومستويات السكر لديهم والشروع بعد ذلك بمراجعة الأطباء والمعالجين لتلقي العلاج. إذ يتوافر لدى أصحاب الهواتف الذكية تطبيقات تمكنهم من التعرف على أوضاعهم الصحية بعد إدخال البيانات ذات الصلة. فهل يعني ذلك خفض الطلب على العاملين في الخدمات العلاجية؟ ربما، ولكن ستظل هناك حاجة للأطباء المتخصصين وأصحاب المهارات من الممرضين والممرضات والعاملين في ميدان الصيدلة. وستدفع هذه التطورات في التقنية إلى تطوير العلوم الطبية والعلاجية وتتقدم أوضاع التعليم في هذه المجالات. لكن تظل هناك أوضاع البشر في البلدان النامية، حيث ترتفع أعداد المرضى المعرضين لأوبئة قديمة مثل الملاريا والكوليرا والسل والجدري، على رغم التقدم الذي جرى في عمليات الوقاية من تلك الأوبئة. والبلدان النامية تشكو من الثقافات المتخلفة والتي تعوق تطبيقات الوقاية. وعلى البلدان المتقدمة ومنظمات الأمم المتحدة، مثل منظمة الصحة العالمية، وضع آليات لتجاوز التخلف الثقافي والقيمي والتعقيدات السياسية التي تحول دون استفادة هذه البلدان من التطورات في مجال الطبابة. إن أي تطورات في هذه الميادين لا بد أن تعزز من تحسين الأوضاع الاقتصادية والتي تعتمد على نشاط العاملين وكفاءتهم.
غنيّ عن البيان أن التقنيات الحديثة واستخداماتها في مجال التعليم، في شكل عام، ستساهم في الارتقاء بإنتاجية القوى العاملة في أي من البلدان. وأصبح التعليم أكثر يسراً في الوقت الراهن بعد أن أصبح بإمكان أي طفل في سن مبكرة، ربما أربع سنوات وأحياناً أقل، التعامل مع الأجهزة الذكية بكل تنوعاتها وفهم الكلمات والحروف والأرقام وتفسير الصور والأفلام وربما حفظ القصص من خلال أنظمة الفيديو. لذلك بات مهماً أن تعتمد الحواسيب والألواح الذكية في المدارس بدلاً من الكتب لتشجيع التلاميذ على التعلم وكسب المعرفة. وقد يأتي يوم تختفي فيه الأوراق من المدارس، كما يجري الآن تناقصها في مكاتب الشركات والدوائر الحكومية في الكثير من البلدان. يضاف إلى ذلك أن إمكانات تخزين المعلومات تسهل على التلاميذ والطلاب العودة إلى الدروس والمحاضرات من دون مصاعب تذكر. وقد يأتي اليوم الذي تتطور فيه أنظمة الامتحانات والاختبارات التعليمية أو المدرسية اعتماداً على تقنيات جديدة. والأنظمة التعليمية الجيدة ستعزز التقدم الاقتصادي وتمكن العاملين من تطبيق أفضل للعلوم والمعارف في عمليات الإنتاج والخدمات والتسويق.
يمكن أن نؤكد أن هذه التطورات إلى تقدم وهناك إمكانات لتحولات جديدة لم نشهدها حتى الآن. بيد أن من المهم الإشارة الى أن من النتائج المتوقعة، التطورات في الأوضاع الديموغرافية والعلاقات الاجتماعية والحياة العائلية. وكما أحدثت الثورة الصناعية الأولى تغيرات في حياة البشر، فإن ما هو متوقع من تأثيرات للثورة الصناعية الرابعة سيكون مثيراً.
نقلا عن الحياة