حدود العمل المصرفي

20/08/2017 1
د. عبد القادر ورسمه غالب
تم توسيع نشاطات البنوك ومنحها السلطات والصلاحيات للقيام بكافة العمليات شاملة المصرفية والاستثمارية والتأمينية تحت سقف واحد. وفي هذا تم عمل لولبيات كبيرة وسط رجال السياسة والتشريع، خاصة أن منح البنوك هذه الصلاحيات الواسعة يحتاج إلى سياسات جديدة مقرونة بتشريعات جديدة. ونجحت هذه التوجهات الجديدة وتم تعديل القوانين والتشريعات من أجل تمكين القطاع المصرفي من خلق كيانات مصرفية كبيرة، وتحقق هذا بعد إصدار قانون «جرام ليتش بليلي» لعام 1999 في أمريكا والذي ألغى بعض أحكام قانون «جلاس ستيغال» لعام1933، حيث كان يتناول أحكاما لا تسمح للبنوك الأمريكية بممارسة أي أعمال غير الأعمال المصرفية التقليدية.
 
هذا الوضع الحصري لم يعجب بعض البنوك التي كانت ضد «التقييد» و«الحصر»، وعملت على إلغاء قانون «جلاس ستيغال» المقيد للحركة المصرفية تقييدا كاملا، وطالبت بفتح الباب على مصراعيه أمام البنوك، وبالطريقة التي تسمح لها بالمشاركة في كافة النشاطات التجارية والاستثمارية والـتأمينية، وذلك من أجل دعم النشاطات الاستثمارية والاقتصادية.
 
هذه التوجهات التي تنادي بإلغاء التقييد وجدت أذنا صاغية وكامل الترحيب والدعم من بعض أصحاب النفوذ والسياسيين ورجال الكونجرس، ولذا ألغي القانون وتم إصدار قانون «جرام ليتش بليلي» لعام 1999 (يحمل اسم الشخصين الذين قاما بإعداد القانون). وهذا القانون ألغى كل القيود، وأطلق يد البنوك التي وجدت الدعم القانوني الذي يسمح لها بممارسة كل الأعمال الاستثمارية لصالح العملاء في كافة الاستثمارات، وفي أسواق المال والأسهم والسندات، وكذلك ممارسة بعض نشاطات شركات التأمين بالاشتراك مع شركات التأمين. وهكذا تقوم البنوك الآن بممارسة كل شيء بدون أي تقييد أو حظر.
 
ظهر نجاح تطبيق أحكام قانون 1999في تأسيس «سيتي جروب» كأكبر مجموعة مصرفية في أمريكا والعالم، وذلك بعد اندماج سيتي بنك مع ترافيليرز جروب. وتبع هذا حراك كبير أدى لقيام وحدات مصرفية عملاقة في أمريكا وأوروبا واليابان بعد اندماج البنوك مع شركات التأمين وشركات الاستثمار.. وهكذا أصبح قيام المؤسسات المصرفية العملاقة ذات الأيادي العديدة أمرا واقعا وحقيقة قائمة بذاتها.
 
كانت القوانين لا تسمح للبنوك البتة بمباشرة أعمال التأمين، سواء من قريب أو بعيد، أو القيام بعمليات الاستثمارات المالية لصالح العملاء أو الوساطة في أسواق المال أو تغطيتها بالضمان.. ولكن تحقيقا للنظرة الجديدة في توسيع السلطات المصرفية، تم إلغاء هذه القوانين المقيدة واللوائح المكبلة وانتهاج سياسة الـ (دي ريقيوليشن) مما فتح الأبواب أمام البنوك الشرهة للاندفاع الكامل للعمل في كل الاتجاهات. وهكذا توسعت وتداخلت الأعمال المصرفية مما زاد من المسؤوليات وتعدد النشاطات، ولكن لكل فعل رد فعل مماثل أو معاكس، ومن خلف هذه النشاطات كان رد الفعل ارتفاع وتيرة المخاطر المصرفية.
 
هذا الوضع الخطير نتجت عنه مخاطر جمة ومتعددة ليس للبنوك فقط، وإنما أيضا للسلطات الإشرافية الرقابية التي جابهت أوضاعا جديدة صعبة. وفي بعض الحالات انفرط العقد ووقع المحظور وفشلت بعض المشروعات في تحقيق المردود، وفشل العملاء في الوفاء مما أدى إلى حدوث مشاكل التعثر القانونية والقضايا أمام المحاكم، وهذا بدوره حتما يقود إلى صعوبات جمة وخسائر كبيرة تتبعها الانهيارات. ولهذا يتململ الآن الكثير من المصرفيين خوفا من المجهول أو مما قد يحدث في أي وقت، وبدأ الكثيرون في البحث عن المخارج من هذه الورطة التي جعلت البنوك عملاقة لدرجة يصعب السيطرة عليها.
 
من سوء القدر أن من كانوا خلف قيام البنوك والمؤسسات المالية العملاقة الآن ينادون بالعودة للماضي وللعمل المصرفي التقليدي فقط، وترك ممارسة كل النشاطات الأخرى من تأمين واستثمارات مالية وخلافه. هذا وكأنهم يقولون أعط الخبز لخبازه، وليعد أهل الصناعة المصرفية لصنعتهم الأصلية التي يعلمون سراديبها وأزقتها وشعابها لأنهم أهلها وأصحابها.
 
وفي جميع الأحوال فإن البنوك العملاقة الشاملة ما زالت موجودة بالرغم من مناداة البعض بالعودة إلى التقليدية عبر التجزئة، وتقزيم العملقة لتحقيق مقولة «الصغير أجمل»، وإن كل القوة في «الذرة» أصغر شيء وأساس كل شيء. ومن دون شك هناك إيجابيات وسلبيات بالنسبة للبنوك الشاملة أو البنوك التقليدية التخصصية. ولكن، حتى يتم الوصول للصيغة المثلى حول النوعية المصرفية الملائمة للبنوك في المستقبل، فلا بد من الحرص على توفير التشريعات المصرفية الضرورية والأيادي المتمرسة مع توفر الضمانات القانونية لتنفيذ وتطبيق القوانين بالكفاءة المطلوبة، والامتثال لها ومراقبتها بالصورة المهنية السليمة.. ولتكن نظرتنا للمستقبل أفضل وأكثر واقعية وممزوجة بالمهنية العالية. وفي جميع الأحوال، من الحكمة الاستفادة من التجارب السابقة مهما كان مردودها سلبا أو إيجابا. ولنبحث عن الأفضل للصناعة المصرفية لمستقبل أفضل.
 
 
نقلا عن جريدة مكة