تختتم مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد السنوات الصعبة من الازمة الاقتصادية العالمية الطاحنة وذلك خلال كلمة ألقتها مؤخرا قائلة: «الخبر السار أنه بعد ستة أعوام من النمو المخيب بدأ الاقتصاد العالمي يكتسب زخما دافعا»، إنها تنهي كل تلك الأزمة بكلمة واحدة، لا أعرف لم أشعرتني لاغارد من خلال كلمتها تلك التي سبقت قراءتي لتقارير صندوق النقد الدولي «آفاق الاقتصاد العالمي، والاستقرار المالي العالمي والراصد المالي» الصادرين خلال الشهر الحالي بعد أيام من إلقائها لكلمتها، أشعرتني وكأن الاقتصاد يدار بزر تحكم، فما بدأت به كلمتها يتنافى مع ما جاءت به التقارير بل يتنافى حتى مع شروحات قدمتها في الكلمة ذاتها.
فكل ما يمكن أن يبنى عليه تفاؤل صندوق النقد ومديرته هو أداء السوق الامريكي الذي ساهم في رفع سعر صرف الدولار، وهذا الأمر الذي شرحت أسبابه متفق أنه يتماشى مع السياسات الخارجية لأمريكا ذاتها، ولا نزال في بداية العهد. في الوقت الذي يؤكد تقرير آفاق الاقتصاد العالمي أن رفع أسعار الفائدة في امريكا والذي جاء بوتيرة أسرع مما توقعها الصندوق نفسه، قد يتسبب في اشتداد الأوضاع المالية العالمية بسرعة تفوق المتوقع وحدوث ارتفاع حاد في سعر الدولار مما يؤدي إلى انعكاسات سلبية على الاقتصادات الضعيفة.
وهناك أيضا تحول مشكلة (الحمائية- التي سأتحدث عنها لاحقا) والتي تعني حماية التجارة المحلية في البلد الواحد، وهذه السياسة بحسب التقرير من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض النمو وتراجع التجارة والاستثمارات عالمياً، وغيرها من المخاطر التي تواجه النمو العالمي والتي اعتبرت واضحة على المستوى المتوسط.
كذلك هناك احتمال أكبر في زيادة التوترات التي قد تؤثر وبشكل مباشر على النشاط الاقتصادي وتضر بالثقة وتساهم في قلب مزاج السوق، وتشديد الاوضاع المالية العالمية بسرعة قد تفوق التوقعات أو التحول نحو الحمائية في الاقتصادات المتقدمة التي قد تعجل تفاقم ضغوط التدفقات الرأسمالية الخارجة من الصين.
وذكر تقرير الراصد المالي أن هناك ارتفاعا محتملا للمخاطرة وقال إن الاقتصادات المتقدمة لجأت لتيسير موقف المالية العامة بما يعادل 0.2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2016، فيما يعد خروجاً عن الاتجاه العام الذي اتسم بالتقشف المالي التدريجي طوال الخمس السنوات الفائتة وتوقع استمرارها حتى هذا العام ما يعني أن يصل الدين العام في الاقتصادات المتقدمة الى مستوى مستقر على المدى المتوسط بمتوسط يتجاوز 100 بالمائة من اجمالي الناتج المحلي بدلا من أن ينخفض وفق توقعات سابقة لتقارير الصندوق.
وأما تقرير الاستقرار المالي فقد أوضح أن الأخطار الجديدة بدأت تهدد الاستقرار المالي في ظل عدم اليقين للمشهد وتؤدي الى تراجع النمو وارتفاع المديونية وارتفاع نسبة المخاطرة، أما سياسة الحمائية في الاسواق المتقدمة فقد تقود الى تراجع النمو والتجارة العالمية وتظهر عقبات عدة، فيما السوق الاوروبي يمكن أن تؤثر التوترات السياسية وبعض السياسات النقدية على مواجهته التحديات وبالتالي ارتفاع مؤشر الدين العام. كريستين لاغارد ذاتها وفي كلمتها أشارت إلى عدد من المخاطر أهمها «عدم اليقين السياسي» كما تصفه بما فيه السياسة الاوروبية التي تتجه نحو الحمائية وكذلك ضيق الاوضاع المالية العالمية التي يمكن أن تؤدي -بحسبها- إلى خروج التدفقات الرأسمالية بصورة مربكة من الاقتصادات الصاعدة والنامية.
فكل تلك التحديات والمخاطر والتوجهات التي توضح سياسات مشحونة بالانانية والجشع وسياسة المصالح الذاتية، ولا ألوم تلك الدول فكل واحدة تبحث عن مصلحتها ومصلحة شعوبها في النهاية، كل تلك التحديات لا تجعل الخبر الذي قالت عنه لاغارد إنه سار أنه ليس كذلك، ولا نجد بيانا حقيقيا ولا دلائل قوية تشير إلى انتهاء السنوات الست العجاف التي أجزم أنها ستكون سبعا.
فأكبر المخاطر تكمن في ما سمته لاغارد «عدم اليقين السياسي» وهذا وحده قادر على قلب الاسواق رأساً على عقب في ظل تفكك الاسواق الاتحادية والعمل بسياسة القطب الأوحد التي قد تجعل المصالح ذاتية وتؤثر في القرار السياسي والاقتصادي معا. وعليه وجب العمل على سياسة المعالجة بدل التفاؤل المخيب، والمعالجة تكمن في تعزيز الانتاجية فسياسة الحمائية ستلقي بظلالها علينا لا ريب، وأما تحسين الانتاجية فيترتب عليها الكثير من الأمور أهمها بناء قاعدة سوية تخضع لنظام حوكمة وشفافية يحد من الفساد والمحسوبية لتقيّم المنشآت ذات المنافع على حساب تلك الأقل منفعة لبناء قطاع صناعي واعد يكبر بالتدريج، والتشجيع على التجارة البينية وفتح الاسواق على بعضها. ما زلت أؤكد أننا نحتاج إلى سيولة تدويرية في سوقنا المحلية، عبر استمرار نشاط التجارة المحلية.
نقلا عن اليوم
فأكبر المخاطر تكمن في ما سمته لاغارد «عدم اليقين السياسي»