نتيجة بزوغ فجر المعرفة في أواخر القرن الماضي، سارعت دول العالم لتأهيل مواردها البشرية بالمهارات التقنية الفائقة، وتدافعت للاستثمار في البحث العلمي والبرمجيات والمعلوماتية، ليصبح الإبداع والابتكار المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي في معظم هذه الدول، فاستأثر الاقتصاد المعرفي على 9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وحقق نموا حقيقيا بمعدل 13% سنويا، مما أدى لتفوقه على الاقتصاديات التقليدية المعتمدة على رأس المال والمواد والعمالة.
ونظرا لأن مؤشر المعرفة ينحصر في أربعة عناصر تتجسد في الحوافز الاقتصادية، والنظام المؤسّساتي، والابتكار في التعليم والتدريب، والبنية التحتية لتقنية المعلومات وخدمات الاتصالات، قفزت المملكة في التصنيف الدولي للمعرفة 26 مرتبة خلال العقد الماضي، لتتربع في المركز الـ50 من أصل 146 دولة.
وجاء هذا التقدم نتيجة دعم المملكة لمسيرة البحث العلمي بنسبة 1.07% من الناتج المحلي الإجمالي، من خلال إنشاء 22 مركزا للتميز البحثي في الجامعات السعودية، بميزانية سنوية فاقت 600 مليون ريال، وأطلقت برامج تقنية النانو في 3 جامعات رئيسية، وأسست الحدائق الذكية وحاضنات التقنية للمساهمة في توطين البرمجيات والمعلوماتية، ودعمت كراسي البحث العلمي، التي فاق عددها 244 كرسيا بحثيا، مما حقق نموا في نشر الأبحاث العلمية بنسبة 217% خلال العقد الماضي، وإصدار أكثر من 5000 ورقة بحثية في العام الماضي.
لذا عندما أعلنت مجموعة "سوفت بنك" اليابانية الأربعاء الماضي ارتفاعا في أرباحها الصافية خلال الربع الأخير لعام 2016 بنسبة 71.2% عن الفترة نفسها من عام 2015، لتزيد قيمتها السوقية بنسبة 557%، وتأتي كرابع أكبر نمو للقيمة السوقية بين الشركات العالمية، وتصنف كثالث أكبر شركة مساهمة مدرجة في السوق الياباني بعد شركتي "تويوتا" و"ميتسوبيشي"، أيقن العالم أجمع بأن استثمار المملكة في مجموعة "سوفت بنك" في أكتوبر الماضي، لتأسيس أحدث صندوق استثماري، تحت اسم "صندوق رؤية سوفت بنك"، يؤكد عزم المملكة على استبدال دخل النفط بعوائد المعرفة.
وباستثمارها في قطاع البرمجيات تحقق المملكة أهداف الرؤية الطموحة 2030، الرامية إلى زيادة إيراداتنا السنوية غير النفطية ستة أضعاف من 43 إلى 267 مليار دولار أميركي بحلول عام 2020. لذا بادرت المملكة إلى دعم اقتصادنا التنافسي لرفع نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة لإجمالي الناتج المحلي من 3.8% إلى المعدل العالمي 5.7%، والوصول بمساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40% إلى 65%، والنهوض بمكانتنا من المرتبة الـ18 إلى المركز الـ15 بين دول مجموعة العشرين.
وبتوطينها لقطاع المعلوماتية تعزز المملكة أهداف برنامج التحول الوطني 2020، الرامية إلى دفع وتيرة الاقتصاد المعرفي للتقدم على مؤشر التنافسية العالمي من المركز الـ25 إلى أحد المراكز العشرة الأولى. لذا سارعت المملكة إلى تطوير بنيتها التحتية الرقمية الخاصة بالاتصالات وتقنية المعلومات، ذات النطاق العريض عالي السرعة، لزيادة نسبة التغطية وتحسين جودة الاتصال وحوكمة التحول الرقمي.
ومن هنا جاء الهدف من تأسيس صندوق "رؤية سوفت بنك"، ليؤكد على خطط المملكة الهادفة لتوسيع قاعدة اقتصادها المعرفي، وتنويع مصادر دخلها غير النفطي، من خلال تعزيز استثماراتها في مجال التقنية على مستوى العالم، ليكون هذا الصندوق أكبر الصناديق الاستثمارية في هذا القطاع برأسمال قدره 100 مليار دولار.
وتعتبر مجموعة "سوفت بنك"، التي تأسست في 3 سبتمبر 1981، شركة يابانية متعددة الجنسيات، وتعمل في مجال الاتصالات والإنترنت، ولديها عدد من المشاريع في مجال النطاق العريض والهاتف الثابت والتجارة الإلكترونية والإنترنت وخدمات التقنية، إضافة إلى المجال المالي والإعلام والتسويق. ففي 17 مارس 2006، أعلنت مجموعة "سوفت بنك" عن صفقة لشراء شركة الاتصالات "فودافون"، مما ساهم في زيادة حصتها في سوق الهاتف النقال باليابان بمقدار 78 مليار دولار، لتبدأ المجموعة خطوات استحواذها على حصة الأسد في شركات الاتصالات العالمية، مثل استحواذها على 78% من أسهم شركة "سبرينتنيكسيل" الأميركية، مقابل 22.2 مليار دولار، و73.2% من أسهم شركة "سوبرسيل" الأميركية، مقابل 4.1 مليارات دولار، و100% من أسهم شركة "إي آر إم" البريطانية المتخصصة في تصميم الرقائق الإلكترونية بمبلغ 32 مليار دولار.
لا شك أن الشعوب الذكية تكتسب اليوم موقعا مميزا في صدارة الاقتصاد المعرفي، لتغزو العالم بتجارتها الخارجية، وتصول وتجول عبر الحدود من خلال عولمة تقنية المعلومات وتشييد خدمات الاتصالات، فازداد العدد الكلي للباحثين بين هذه الشعوب من 6 إلى 11 مليون باحث خلال العقد الماضي، لتحقق الدول المتقدمة 62% من هذا الزيادة، تلتها الدول الآسيوية بنسبة 25%، بينما توزع الباقي على دول العالم الأخرى بنسبة 13%.
وعليه لا غرابة أن النمو في حجم التعاملات الإلكترونية حقق في العقد الماضي نسبة 600% في منطقة آسيا و520% في أميركا و340% في أوروبا و80% في دول الشرق الأوسط. ففي السنوات الأخيرة تضاعف حجم هذه التعاملات في العالم من 4 تريليونات دولار في عام 2003 إلى 23 تريليون دولار في نهاية عام 2016، ليعادل 150% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لأميركا، و4 أضعاف التجارة العالمية في قطاعي السلع والخدمات، و12 ضعف الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية.
لا شك أن النقلة النوعية المصاحبة لإنشاء صندوق "رؤية سوفت بنك"، واستثمار المملكة الناجح في البرمجيات والمعلوماتية يؤكدان على أن المعرفة ستكون مستقبلا أعظم دخلا من النفط.
نقلا عن الوطن