نتيجة للفوضى الخلاّقة، التي كانت خلال العقود الثلاثة الماضية من أهم مبادئ النظام العالمي الجديد، انقسمت دول القرية الكونية إلى قسمين: دول استسلمت طوعا لهذه المبادئ فأصبحت عاجزة عن تطوير ذاتها ومعالجة قضاياها والتصدي لتحدياتها، ودول انتفضت لجمع شملها واستغلال قدراتها فأصبحت قادرة على تعزيز مكانتها واستعادة حقوقها وتنمية مصادر دخلها.
في العالم الثالث اختلطت موازين الحق بالباطل، فتحول ثلث الوطن العربي إلى حلبة صراع مستميت على السلطة والمال، وتربع ربع العالم الإسلامي على منابر التكفير والترهيب والتخوين.
وفي العالم الأول تراجعت نصف الدول الرأسمالية عن اقتصاد السوق وحرية التجارة، لتحتل الدول الاشتراكية مكانة الصدارة في التجارة الخارجية، فأزاح التنين الصيني والدب الروسي المارد الأميركي والعملاق البريطاني عن عرش العولمة.
قبل أيام صدر في لندن تقرير مركز أبحاث السياسات الاقتصادية محذرا دول العالم عامة ومجموعة العشرين خاصة بأن التجارة العالمية تواجه أسوأ مراحلها بسبب السياسات الحمائية التي تنتهجها الدول الرأسمالية المؤسسة للعولمة الاقتصادية.
وأكد التقرير أن أميركا احتلت المرتبة الأولى كأكثر الدول استخداما لهذه السياسات، من خلال تطبيق أكثر من 600 نوع من الإجراءات التمييزية ضد الشركات الأجنبية في الفترة ما بين نوفمبر 2008 ومايو 2016. لذا استمر نمو التجارة العالمية ضعيفا وبمعدل 2.8% في عام 2016، مما يجعله العام الخامس على التوالي الذي يحقق فيه نمو التجارة العالمي نسبة أقل من 3% وفقا لآخر تقرير صادر عن منظمة التجارة العالمية.
هذه السياسات المشوهة للتجارة أخذت في العام الماضي منحنى خطيرا بعد أن فرضت أميركا رسوما جمركية حمائية على وارداتها من الحديد الصلب الصيني، لتصل إلى ما مجموعه 522%، وتشمل 266% رسوم مكافحة الإغراق و256% رسوم تعويض الدعم. وهذا يتعارض مع أبسط قواعد منظمة التجارة العالمية، لأن فرض هذه الرسوم بصورة مزدوجة في وقت واحد على المنتجات المستوردة يتعارض حكما مع التزامات أميركا تجاه الدول الأعضاء بالمنظمة، خاصة أن أميركا لا تعترف بالصين كدولة ذات اقتصاد حر.
ومع أن واردات أميركا من الصين خلال السنوات الخمس الماضية ارتفعت بمعدل تراكمي يصل إلى 383%، في حين ارتفعت الصادرات الأميركية إلى الصين خلال نفس الفترة بمعدل 614%، إلا أن أميركا تبدو في عهدها الجديد ماضية قدما لتنفيذ تهديدها بفرض رسوم جمركية أخرى تصل إلى 45% على وارداتها من الصين.
هذه الخطوات ستدفع أميركا والصين إلى حروب تجارية ونزاعات دولية، إضافة إلى تراجع الاقتصاد الأميركي كما حدث في عام 1930 عندما أصدر الكونجرس قانون "سموتهاولي"، الذي سمح لأميركا برفع الرسوم الجمركية على 890 صنفا من المنتجات المستوردة، لتتقلص واردات أميركا بنسبة 66%، وتنخفض صادراتها بنسبة 69%، مما أدى لانخفاض ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 50% وتراجع تجارتها العالمية بمعدل 66%.
وعلى عكس أميركا الرأسمالية، المتهمة خطأ بمناصرتها للعولمة، استغلت الصين وروسيا فتح الأسواق العالمية، واستجمعت قواها مع البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، لتؤسس مجموعة من أسرع الدول في النمو الاقتصادي، وأطلقت عليها اسم مجموعة "بريكس"، التي تشكل مختصرا للحروف الأولى من أسماء هذه الدول. وعندما عقدت هذه المجموعة أول قمة بين قادتها في يونيو من عام 2009، أعلنت عن تأسيس نظام عالمي جديد، واتفقت على مواصلة التنسيق بينها لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، بما فيها التعاون في القطاع المالي والتمويلي وإيجاد الحلول الناجعة للأمن الغذائي.
واليوم بينما لا تزيد مساحة مجموعة "بريكس" عن 26% من مساحة القرية الكونية، ولا يزيد عدد سكانها عن 45% من سكان الأرض، إلا أنها تستحوذ على 23% من الناتج الاقتصادي العالمي، و18% من إجمالي حجم التبادل التجاري الدولي، وتحتفظ بنحو 40% من مجموع احتياطات العالم، لتنافس بحلول عام 2030 اقتصاديات أغنى دول العالم بما فيها أميركا وأوروبا واليابان ودول الخليج العربية مجتمعة.
وعلى الرغم مما يربط دول مجموعة "بريكس" من تحديات مشتركة وقضايا دولية شائكة إلا أن المجموعة عقدت العزم على مواجهتها بتسريع إصلاحات هيكلتها الإدارية وتطويع أزماتها المالية وتذليل عقباتها التنموية، إلى جانب تدويل عملاتها المحلية، لذا أسست المجموعة قاعدة تعاون استثمارية وتجارية مشتركة، وكونت منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات، لدفع احتساب التجارة البينية بالعملة المحلية، وتسهيل مبادلاتها الاستثمارية وتعاونها المشترك في كافة المجالات.
طبقا لصندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تتربع الصين في عام 2030 على عرش أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي إجمالي يفوق 83 تريليون دولار، لتتفوق بذلك على أميركا التي ستحتل المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي لا يزيد عن 34 تريليون دولار. أما اليابان فستتراجع إلى المرتبة الرابعة بعد الهند التي ستحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي يفوق 26 تريليون دولار.
الجديد في نظامنا العالمي الجديد أن عالم الغد لن يكون مثل عالم الأمس أو حتى مثل عالم اليوم، فحجم الاقتصاد العالمي في قريتنا الكونية الصغيرة سيتشكل مستقبلا من أربعة تحالفات، أعظمها سيكون من صالح مجموعة دول "بريكس" الاشتراكية، التي دعت لإرساء قواعد نظام عالمي جديد ومميز للاستفادة من مبادئ العولمة الرأسمالية التي فرضت عليها، بينما سيكون أضعفها من نصيب الدول الفقيرة، وما تبقى من الدول العربية المتناحرة، التي فشلت في الدفاع عن مصالحها وتطويع النظام العالمي الجديد لصالحها.
نقلا عن الوطن