الميزانية العامة للدولة والسياسة المالية 2 - 2

08/01/2017 0
د. أنور أبو العلا

قبل صدور كتاب النظرية العامة عام 1936 لكينز (أشهر عالم اقتصاد في القرن العشرين) لم يكن يوجد علم مُنتظم يسمى الاقتصاد الكلي. كذلك لم تكن توجد سياسة اقتصادية مُنتظمة تسمى السياسة المالية. كان الشيء الذي أصبح -بعد صدور كتاب النظرية العامة لكينز- يسمى الاقتصاد الكلي مجرد معادلة واحدة تسمى النظرية الكمية للنقود، وكانت هذه المعادلة اليتيمة تحتوي في أحد جوانبها كمية النقود المطروحة في التداول مضروبة في سرعة تداولها (انتقالها) من يد إلى يد، ويحتوي الجانب الآخر للمعادلة اجمالي الناتج القومي مضروباً في أسعار السلع والخدمات.

ثم بعد صدور كتاب كينز بدأ أساطين المنظرين الاقتصاديين الأكاديميين يتسابقون في بناء النماذج المتكاملة للاقتصاد القومي الكلي متدرجين بإضافة قطاع وراء قطاع الى أن أصبح النموذج الحالي النهائي نظاماً متكاملاً يحتوي على معادلة لكل قطاع جوهري في النظام.

الآن أصبحت نماذج الاقتصاد الكلي لا تقتصر فقط على تدريسها نظرياً في فصول الجامعات على شكل نظام متكامل يتكون من المعادلات الرياضية القابلة للقياس، بل أصبحت هذه النماذج أيضاً يتم تطبيقها عملياً في جميع الدول المتقدمة (كمثال: أميركا) باستخدامها كنماذج مُصغّرة لمحاكاة اقتصاداتها القومية الكلية لقياس تأثير سياساتها المالية والنقدية على اقتصادها.

هذه النماذج الاقتصادية المصغرة (تسمى: econometric models) تستخدمها معظم حكومات الدول الحديثة الآن كمختبرات تجارب لتتعرف الحكومات مُقدماً على التأثير الاقتصادي في اقتصادها القومي عندما تنوي اتخاذ إجراء جديد (كمثال: رفع أسعار الخبز، أو فرض ضريبة القيمة المضافة، أو رفع البنزين، أو صرف إعانة غلاء المعيشة..).

من باب أولى أن تستخدم الحكومات هذه النماذج لمعرفة تأثير سياساتها المالية قبل أن تُقدم على تنفيذها فعلى سبيل المثال: عند رغبة الحكومة تمويل العجز في الميزانية العامة للدولة قد تلجأ لاستخدام هذه النماذج بإجراء المقارنة بين طرق التمويل المتاحة لتمويل العجز لتعرف هل الأفضل لاقتصادها تمويل العجز عن طريق الاقتراض الداخلي، أوالخارجي، وهل الأفضل تمويل العجز عن طريق الاقتراض، أو السحب من الاحتياطي، أو بيع بعض أملاك الحكومة.

وهكذا قبل أن تختار الحكومة طريقة تمويل العجز أو تبني سياسة مالية فإنها تلجأ الى هذه النماذج بناء على تأثيرها المتوقع على اقتصادها، ومن ثم المقارنة بين نتائج الحالات المختلفة.

كذلك عند تنفيذ السياسة النقدية فإن البنوك الفدرالية الأميركية تلجأ لهذه النماذج لتعرف هل الوقت مناسب لرفع معدل الفائدة؟ وبأي نسبة والآثار التي ستحدث.

السؤال: ما مدى دقة هذه النماذج وهل هي مقياس دقيق لمحاكاة الاقتصاد الحقيقي وما مدى تقيد الجهات التي تستخدم هذه النماذج بنتائجها.

الحقيقة أن هذه النماذج الاقتصادية هي أدوات استرشاد قد لا تمثل الواقع بدقة: فقد يرى النموذج الذي يستخدمه فيدرالي سانت لويس بأن الوقت مناسب لرفع الفائدة ولذا يوصي برفعها، بينما في نفس الوقت قد يرى النموذج الذي يستخدمه فيدرالي نيويورك التأجيل.

في منتصف السبعينيات -عندما كنت أدرس الماجستير في ميشيقان (كلامازو)- كان الجدل بين الكينزيين والنقوديين على أشده وكان النقوديون (مدرسة شيكاغو) تستخدم نموذج الكمية النقدية المبسّطة لإثبات صحة نظرياتهم، بينما الكينزيون (مدرسة كامبردج) يستخدمون النموذج الكينزي المتكامل وكان رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة تلميذ لفريدمان فكان يُفاخر بأنه رغم بساطة النموذج المستخدم في شيكاغو فإنه يأتي بنتائج لا تقل جودة عن نتائج النموذج الكينزي المُعقد.

نقلا عن الرياض