كان بودي أن يكون العنوان «ميزانية 2017: هل تعلن صفرية وتتحيز القيمة المضافة؟»، لكني أصبحت «أحرص» على تجنب استخدام عبارة «القيمة المضافة»! وسبب «الرُهاب» المستجد، أني غردت مرةً حول أهمية «القيمة المضافة» في تحقيق النمو الاقتصادي، ففهم «المدرعمون» أني أتحدث عن «الضريبة»، ضريبة القيمة المضافة، التي أعلنت المملكة في بيان العام المالي 2016 أنها ستتبناها كجزء من قرار اتخذته دول مجلس التعاون!
ففي ظن «المدرعمين» أن «القيمة المضافة» هي «ضريبة القيمة المضافة»، وليس أي شيء آخر. وما أبعد ذلك عن الحقيقة.
وفيما يتصل بالميزانية صفرية العجز، فقد تناولتها هنا في الأسبوع الماضي، ولن أزيد، لأفسح المجال لتناول المحتوى المحلي. وزيادة المحتوى المحلي ينبغي أن تكون طريقة حياة بالنسبة للسعوديين؛ إن أردنا أن نتقدم الصفوف. وهو أمر ليس هين التحقيق، بعد أن اعتدنا البحث عن حلول تحدياتنا باستقدام خبير من الخارج، ابتداء! دون أن نكلف أنفسنا البحث محليا ابتداء!!
ولهذا، فقد «جَنبنا» -حتى لا أقول أهملنا- جزءًا مهمًا من مواردنا ومواهبنا، لندأب على استيراد واستقدام كل شيء وأي شيء، فما نستورده سنويا قد توازي قيمتهُ 34% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالمقابل فما نصدره يعادل 47% من الناتج المحلي الإجمالي! الفارق ليس كبيرًا، فإن أضفنا تجارة الخدمات اتضح أن ميزاننا التجاري تحت ضغط متعاظم!
ولنتذكر أن الاقتصادات النشطة اقتصاديا، هي نشطة كذلك في التجارة العالمية، وقد تجد أن قيمة تجارتها مع العالم (ولا سيما تصديرًا) تتجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي، لتبلغ أضعافه في بعض الدول! فمثلا شقيقتنا الإمارات، نشطة في إعادة التصدير، ويبلغ ما تصدره قيمة ناتجها المحلي الإجمالي.
ولا يخفى أن هدف «الرؤية السعودية 2030» رفع قيمة الصادرات غير النفطية من 16% إلى 50% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وهذا هدف ضخم، سيتوجب أن تعيد الصناعة السعودية غير النفطية اكتشاف واختراع وإدارة ذاتها، وتبحث عن المحتوى المحلي تحت «كل حَجَر»!
في المحصلة، فاقتصاديًا تركيزنا يجب أن يتمحور حول ما يضيفه أي نشاط إنتاجي من قيمة للاقتصاد المحلي وإلا كيف سينمو الاقتصاد ونصبح أكثر ازدهارًا وبحبوحة؛ فإن لم يضف قيمة فيكون نشاطًا «طفيليًا» يأخذ منا أكثر مما يعطينا، وستجد اقتصادنا مثل عين عذاري «يضرب بوش»، فنبذل جهدا دون أن نحقق النتيجة المستهدفة! وليس من شك، أن على سياساتنا الاقتصادية معالجة الأمر أولا بجعل «رفع المحتوى المحلي» محورًا ارتكازيًا لبناء ميزانية 2017، تمامًا كما جعلنا «رفع كفاءة الانفاق» محورًا لميزانية 2016، مما أدى إلى الضغط على جُلّ -إن لم يكن كُلّ- المكابح.
ولا بد من الاستدراك، بأن ثمة أنشطة لا نستطيع التخلي عنها بل نريد رفع محتواها المحلي لأهميتها، وهذا لن يحدث إلا بمبادرة وخطة وجهود مجدية على الأرض. وفي هذا السياق تجدر الاشارة إلى أن أحد أهداف «الرؤية السعودية 2030» زيادة المحتوى المحلي من 40% إلى 75% في قطاع النفط والغاز، ولم يتضح الاتجاه فيما يتصل ببقية القطاعات، فليس واضحًا لما إفراد قطاع النفط والغاز دون غيره من القطاعات، مع ادراكي لثقل هذا القطاع في ميزان الاقتصاد السعودي وهيكلته الراهنة.
ليس فيما أذكر قسوة، فلينظر كل منا لما حوله، وليجب السؤال: ما اضافتنا المحلية؟! ولأي درجة هي حرجة أم هامشية؟ لننظر في صناعة النفط والغاز، وفي التكرير، وفي صناعة البتروكيماويات، وفي الصناعات الغذائية، وفي الزراعة، وفي التعدين، وفي الإيواء، وفي الترفيه، وفي تجارة التجزئة، وفي أسواق بيع الخضار والفواكه، وفي التشييد والبناء! بل وحتى في قطاعات الاقتصاد الجديد بما في ذلك الرقمي، وللنظر في القطاع المالي. للنظر، وليجب كل منا عن السؤال بنفسه ولنفسه.
وقد يقول قائل: إن نسبة «السعودة» في الشركة التي أعمل بها 99.9%. حسنٌ، لكن ماذا عن منظومة المقاولين والمتعاقدين والمزودين التي تتعامل معها شركتك؟ تَتَبع كل حلقات التزويد والقيمة ثم أجب؟ طرحتُ «نشاطات» هنا على مدى سنوات، و«نشاطات» تتمحور حول قياس ومتابعة وتنمية المحتوى المحلي، ليس على مستوى المنشأة فحسب، بل باحتساب المحتوى المحلي في النشاط الاقتصادي برمته، وبناء سياسات (لتنمية المحتوى المحلي) لكل نشاط على حدة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن المكون الأهم للمحتوى المحلي -بلا منازع- هو العنصر البشري، ويتحقق ذلك عبر التوظيف المباشر لمزيد من المواطنين والمواطنات، وكذلك تدريب وتأهيل المواطنين والمواطنات ليصبح بوسعهم القيام بأعمال أعلى إنتاجية.
أما المكون الثاني الرئيس في المحتوى المحلي فهو الربط والتكامل مع مزودين محليين (يقدمون سلعا وخدمات بمحتوى محلي متصاعد). بمعنى أنه حتى ترفع منشأة ما المحتوى المحلي لديها، فعليها العمل على مستويين:
توظيف المزيد من المواطنين والمواطنات، 2. جعل شبكة المزودين محلية وعالية المحتوى المحلي كذلك. ومحلياً، فلعل مبادرة «اكتفاء» لأرامكو السعودية مثال ملائم للاستشهاد به. ولعل ليس من التجاوز القول بأهمية تعميم مبادرة «اكتفاء» لرفع المحتوى المحلي في جميع الأنشطة الاقتصادية حصرًا.
مع الاقرار بأن الآلية وحتى السياسات التفصيلية تتفاوت من نشاط لآخر. أدرك أن المحتوى المحلي ليس اختراعًا سعوديًا، أما «اكتفاء» فحالة وتجربة سعودية، من مصلحتنا الاستفادة والتعلم منها وطنيًا، ودون إبطاء؛ للمساهمة في رفع القيمة المضافة المحلية، بما سيعزز النمو الاقتصادي، ويساهم في جعل سحنة العام المالي 2017 أكثر اتساقًا مع تباشير الرؤية 2030 وأهدافها العالية.
ما علاقة ما تقدم بميزانية 2017؟ لقد أعلنت ميزانية العام المالي 2016 تحت عنوان «رفع كفاءة الانفاق»، وأدى ذلك بعد أيام من بدء العام 2016 إلى قفزة في مؤشر الأسعار، وإلى تخفيض الانفاق الرأسمالي، وإلغاء جملة من البدلات وبالتالي تراجع «الأجر الذي يؤخذ للبيت» (take home pay) لشرائح من الموظفين، وبالنتيجة تأثر سلبًا مؤشر الاستهلاك الخاص (private consumption). ولذا، فيبدو صعبًا الاستمرار في أن تتمحور القطاعات كافة حول رفع كفاءة الانفاق، رغم أهمية القيام بذلك.
وبالمقابل، يمكن بيان أن بوسع القطاعات كافة أن تلتف -وبأريحية- حول زيادة المحتوى المحلي، فيصبح البحث عن الموظف السعودي والسلع والخدمات السعودية محورًا وطنيًا جامعًا، وبذلك الجميع يكسب (الجهات الحكومية المعنية والباحث عن عمل وصاحب العمل)، ويخسر من يصر أن يعمل وفق نهج «الريع» فلا يضيف قيمة للاقتصاد.
وبذلك نعيد التمركز، من الانفاق الحكومي هو قاطرة الاقتصاد التي تحدد اتجاهه وسرعته، إلى التمحور حول زيادة المحتوى المحلي لجميع أنشطة القطاع الخاص، وبذلك يتخلص اقتصادنا من «تشوهاته وتفككه» رويدا رويدا، ليصبح أكثر تكاملًا واندماجًا وليصبح أكثر انتاجية نتيجة لتآزر (synergy) منشآته.
ولعل ليس من المبالغة تشبيه وضع اقتصادنا حالياً بربة المنزل التي إن نقصها مِلح طعام فأول ما تفعله أن تطرق أبواب الجيران حتى قبل أن تكلف نفسها البحث عن مِلحٍ في أرفف مطبخِها!
نقلا عن اليوم