منذ بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، قررت المصارف المركزية وعلى رأسها مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي خفض سعر الحسم إلى مستوى قارب الصفر، وعملت المصارف المركزية الأساسية مثل المصرف المركزي الأوروبي و«بنك إنكلترا» و«بنك اليابان» لضبط إيقاع السياسة النقدية من أجل حفز العمل الاقتصادي ودفع المستثمرين إلى توسيع أعمالهم وتأسيس أعمال جديدة.
لكن الاقتصاد العالمي خلال السنوات الماضية عانى مشكلات هيكلية حادة ولم تتمكن أدوات السياسة النقدية، ومنها أداة سعر الحسم، من رفع مستوى الأداء وتحسين أوضاع سوق العمل في شكل كبير أو حفز المستهلكين لزيادة الإنفاق بما أبقى مستوى التضخم في مختلف البلدان الصناعية الرئيسة عند حدود متدنية.
وتعامل مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي بحرص مع سعر الحسم وأخضع قراراته لمعطيات اقتصادية وبناء على مبررات تقنية ملائمة. كان سعر الحسم عام 1950 لا يتجاوز 1.5 في المئة وظل المستوى معقولاً ورُفع وخُفض وفق متطلبات الاقتصاد. لكن السعر رُفع إلى 14 في المئة في عهد الرئيس ريغان، بعدما ارتفع معدل التضخم إلى مستوى غير معهود وغير مقبول عام 1981. بيد أن الأوضاع تغيرت بعد سنوات ليعود سعر الحسم إلى ثلاثة في المئة عام 1993، في بداية عهد الرئيس كلينتون، ثم خُفض إلى ما دون واحد في المئة نهاية عام 2002.
وأدت السياسات الهادفة إلى تقليص الضوابط على الإقراض وتحريره في شكل شبه كامل في ظل تولي آلان غرينسبان رئاسة المجلس خلال رئاسة بوش الابن، إلى ارتفاع مديونية المصارف وتضخم أسعار العقارات، خصوصاً السكن الخاص، بعدما تمكن كثر من الأميركيين من الاقتراض واقتناء المساكن من دون التحقق من الجدارة الائتمانية للعديد منهم. ورفع مجلس الاحتياط الفيديرالي سعر الحسم إلى 5.75 في المئة في نيسان (أبريل) 2006. وساهمت عمليات الإقراض المنفلتة في حدوث أزمة الرهن العقاري عام 2008 وكشفت الأزمة مشاكل مهمة في النظام المصرفي، ليس في الولايات المتحدة فقط بل في بلدان الاتحاد الأوروبي واليابان وعدد آخر من البلدان الصناعية.
واندفعت المصارف المركزية، وعلى رأسها مجلـــس الاحتياط الفيديرالي، إلى البحث عن حلول للأزمة، كما استخدمت أدوات السياسة المالية لتعويـــم العديد من المؤسسات المالية الرئيسة. وخُفـــض سعر الحسم مرات وتدنى إلى 0.50 في المئـة في كانون الأول (ديسمبر) 2009. ورُفع السعر إلى 0.75 في ربيع 2010 وظل على ذلك المستوى لفترة طويلة ولم يُرفع إلى واحد في المئة إلا في كانون الأول 2015، 2015.
وتُثار منذ فترة مسألة حتمية رفع سعر الحسم على ضوء التحسن في معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع أعداد الوظائف في سوق العمل، كما تزعم رئيسة مجلس الاحتياط الفيديرالي جانيت يلين التي أكدت أن الاقتصاد أظهر تحسناً مهماً فسوق العمل كسبت 180 ألف وظيفة جديدة شهرياً في المتوسط منذ مطلع 2016. وظل معدل البطالة يدور حول 4.9 في المئة، وهو معدل مقبول في اقتصاد كبير مثل الاقتصاد الأميركي. وزاد معدل النمو الاقتصادي إلى ثلاثة في المئة خلال الربع الثالث من العام. وتتحسن مداخيل الأفراد والأسر بما يعكس إمكانات رفع مستويات الاستهلاك الشخصي والعائلي.
لكن يقابل ذلك عدم تحسن في مستوى الإنفاق الرأسمالي إذ ظلت استثمارات رجال الأعمال منخفضة ومحدودة الأثر، وربما يعود ذلك إلى تراجع نشاطات في قطاعات مثل الاستخراج النفطي بعد تراجع أسعار النفط وكذلك استمرار ضعف قطاع الصناعات التحويلية. إذا كانت من الأهداف المعلنة لرفع سعر الحسم في الولايات المتحدة مواجهة التضخم فإن معدل التضخم يظل منخفضاً إذ لم يتعدّ واحداً إلى 1.25 في المئة خلال الشهور الـ 12 الماضية وهو لم يصل إلى المستوى المنشود من مجلس الاحتياط الفيديرالي المحدد باثنين في المئة. ولا شك في أن انخفاض أسعار المحروقات والوقود بفعل تراجع أسعار النفط حد من التضخم إلى درجة كبيرة.
أما بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة فبرزت إمكانات قيام خلاف بين إدارة مجلس الاحتياط الفيديرالي والفريق الاقتصادي للرئيس. وسبق لترامب أن انتقد السياسات النقدية المتساهلة للاحتياط الفيديرالي لكن هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعديل السياسات النقدية من أجل ضبط الإقراض والسيولة؟ هناك محددات ويظل مجلس الاحتياط الفيديرالي مستقلاً في تحديد قراراته وسياساته.
ورحب ستيفن مور أحد مستشاري ترامب، بارتفاع أسعار الفوائد المصرفية، كدليل على ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأميركي بعد الانتخابات الرئاسية. ويبدو أن هذه التلميحات وتصريحات جانيت يلين في شأن عافية الاقتصاد الأميركي قد تدفع إلى مراجعة السياسة النقدية وربما تؤدي إلى رفع قريب لسعر الحسم.
نقلا عن الحياة