تبذل العديد من الدول جهودًا عديدةً في مسار الإصلاح والتطور الاقتصادي حتي تعم الفائدة علي الجميع في الدولة، ويسود الرخاء والتنمية المستدامة، وفي هذا الإطار يتم إصدار العديد من التشريعات المنظمة للحركة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية. وكل هذه التشريعات تعمل معا من أجل تقنين كل هذه النشاطات لتعمل في إطار سليم داخل بوتقة القانون، وهكذا يساهم القانون بفعالية تامة في تطوير المجتمعات وتنميتها تحت ظل سيادة القانون.
في البحرين، كنموذج لبقية دول الخليج، تم إصدار العديد من التشريعات الحديثة لتنظيم الجوانب الاقتصادية والتجارية والمصرفية، وهذه البوتقة من التشريعات مكنت البحرين من تبوأ مركز مرموق يستقطب العديد من الأعمال التجارية والاستثمارية من مختلف دول العالم. والرجوع لعدد الشركات والبنوك وصناديق الاستثمار الأجنبية التي تعمل في البحرين يشكل دليلا واضحا على ملائمة المكان والمناخ والبيئة للاستثمارات القادمة من كل أطراف العالم. وهذا الوضع ينطبق أيضا ولحد كبير على بقية دول الخليج حيث تنشط التجارة والاستثمارات العالمية بدون عوائق.
مما تقدم، يتضح لنا أن النشاطات التجارية والاستثمارية والمالية والخدمية متوفرة في البحرين ودول الخليج الأخرى منذ مدة وما زالت الإمكانيات حبلي بالمزيد من الإمكانيات الواعدة للمستقبل الأفضل والأكثر عطاءً ونموًا. ولكن، من أبجديات النشاط التجاري أنه يأتي بالأرباح الكثيرة أو القليلة وأيضا يأتي بالخسائر الكثيرة أو القليلة. وهذه الأرباح أو الخسائر هي واقع الحال، و”يوم لك ويوم عليك” و”دوام الحال من المحال”، كما يقول الحكماء منذ الأزل…
ومن هذا الواقع في التجارة بجميع أشكالها فان التاجر قد يكون غنيا مليئا أو قد يكون مفلسا معدما. وبالرغم من هذه الحقيقة، إلا أن “الإفلاس” يعتبر وصمة عار عندنا تدمغ في جبين هذا التاجر. وقد يقع أي تاجر، لسوء حظه، في شبكة الإفلاس بالرغم من أنه بذل جهدًا أكبر وفكرًا أعمق من جاره التاجر الآخر الذي، ولحسن حظه، وقع في شبكة الأرباح من دون أي جهد يذكر أو أي عمق في التفكير… وطبعا نقول أن الأرزاق بيد الرازق الرزاق. والأمر بيده لحكمة لا نعلمها.
ولأن التجارة مكسب مبين أو خسران مبين، قامت العديد من الدول بإصدار قانون خاص من أجل تنظيم الإفلاس “التفليسة” إذا حدث لأي تاجر، لا قدر الله. والفلسفة التي تبني عليها قوانين الإفلاس، أن الإفلاس في التجارة أمر وارد وجائز وقد يحدث لأي تاجر وقد يحدث في أي وقت وقد يحدث في أي مكان وقد يحدث في أي زمان وقد يحدث “لجميع أو أي العوائل”… ولذا يجب حماية التاجر الذي يتعرض للإفلاس والعمل علي مساعدته ودعمه حتي يتمكن في الخروج من هذه الكبوة أو الوضع الكارثي الذي تعرض له.
قوانين الإفلاس الحديثة التي صدرت في الآونة الأخيرة، تركز على حماية ودعم التاجر المفلس أو مقدم الخدمات الذي يحدث له الإفلاس لظروف تجارية بحتة لا يتمكن من مواجهتها أو التغلب عليها أو التقليل من انعكاساتها السلبية، لأنه بذل ما في وسعه.. ومثل هذا التاجر، يجب وضع برنامج إسعافي لحمايته ودعمه أو وضع برنامج خطط “إعادة الهيكلة” حتى يستطيع الوقوف ثانية والسير باطمئنان في تجارته مجددًا لأن التجارة هي مكانه الأصيل وهي مهنته التي يمتهنها ليخدم كل المجتمع عبرها. وفي خلال هذه الفترة “الإسعافية” والمرحلة “الانتقالية” لا تجوز ملاحقته بصورة فردية وإنما تتم، إذا دعت الضرورة، عبر برنامج شامل يتم الاتفاق علي شموليته بين كل الأطراف وبموجب الأحكام القانونية الواردة في قانون الإفلاس الذي يعمل علي حماية التجارة والتجار حتى في أحلك الظروف… وهذا هو المطلوب في جميع الأوقات.
دول الخليج ينقصها هذا التشريع المهم الذي ينظم الإفلاس التجاري بالمفاهيم الحديثة، في ما عدا دولة الإمارات التي أصدرت قانون الإفلاس قبل أسابيع قليلة، وسنتناول هذا القانون في مقالات لاحقة. ونظرًا لعدم وجود قانون ينظم الإفلاس بمفهومه الحديث، فقد أضطر أحد البنوك الشهيرة في البحرين إلى اللجوء لاستخدام الفصل “الحادي عشر” من قانون الإفلاس الأمريكي. ولقد لجأ هذا البنك للقانون الأمريكي لحمايته من الانهيار التام لأنه فشل في إقناع الدائنين عند حلول وقت السداد بمنحه فرصة إضافية من الزمن لسداد ديونه الحالة.
والفشل في السداد عند حلول أجل الدين هو الإفلاس بعينه وبدمه ولحمه، ولكن ما يميز قانون الإفلاس الحديث أنه يمنح فترة سماح “قريس بيريود” للسداد تقديرا لظروف التاجر المنكوب. وأعتقد أن تصرف البنك في البحرين كان شجاعًا وسليمًا من الناحية القانونية في استنفاذ كافة البدائل والفرص القانونية المتاحة له.
وقد فعل دون تردد، وكان فعله في الوقت المناسب، وبموجب الفصل الحادي عشر من القانون الأمريكي تم منحه فرصة للسداد .. وليس في الإمكان أبدع مما كان.. والآن خطة البرمجة تسير في نجاح تام وبما يخدم مصلحة الجميع في حدود ما يوفره القانون. وعبر هذا المنفذ القانوني، سيعود التاجر لنشاطه العادي، ولو بعد حين، وسيحصل كل دائن علي نصيبه من الدين بدلاً من أن يقبض الهواء.
ونقول: إن الفلسفة التي يقوم عليها قانون الإفلاس بمفاهيمه الحديثة في العالم تهدف أولاً وأخيرًا: لحماية التاجر “النزيه والنظيف” الذي يتعرض لهزة وذلك من أجل حماية التجارة نفسها أولا والتجار ثانيا: وهذه كما يقولون “ضربة معلم” قانونية. ولكل هذا نقول، هناك ضرورة قصوي لإصدار قانون الإفلاس في البحرين وبقية دول الخليج وفق المعايير التجارية العالمية الحديثة استعدادا لأسوأ الظروف، والتحوط أمر واجب.
ولنعمل على إصدار هذا القانون، في الحال، للأهمية وحتى تكتمل لدينا بوتقة و”بوكيه” القوانين الحديثة المنظمة للتجارة والاقتصاد والاستثمارات الدولية… وبالعدم سيكون هناك فراغا تشريعيا يشكل عائقًا عميقًا وقد لا يسمح لنا بملاحقة التطورات العالمية من حولنا، وهذا ليس في مصلحة الحركة التجارية التي نتطلع لها لرفد الاقتصاد وتنوع مدخلات الدخل القومي… و”الرزق عبر بوابة التجارة”.
نقلا عن عُمان