المقصود بالسعودة هو توطين الوظائف عبر الاحلال وإعادة هيكلة الوظائف المشغولة في سوق العمل السعودية لكي ترتكز -مع مرور الوقت- على المواطنين والمواطنات، باعتبار أن المزايا الاجتماعية-الاقتصادية لذلك تَبزّ بفارق كبير أي خيارٍ آخر. والمقصود بالقيمة المضافة هو تنمية القيمة عبر مراحل الإنتاج بما يتجاوز التكلفة المبدئية، فمثلا يشتري النجار قطعة خشب بعشرة ريالات ويصنعها بتكلفة عشرة ريالات أخرى لتصبح كرسيا يبيعه بثلاثين ريالا. أما المقصود بسعودة القيمة المضافة أن تكون السعودة حاضرة في كل مرحلة من مراحل الإنتاج (أو مراحل توليد القيمة المضافة).
بالأمس تناولت هذا الحيز «الانكشاف المهني» من زاويتين؛ نظرية وعملية. واليوم، نتناول فكرة أن توفير السعوديين الراغبين في دخول سوق العمل ليس كافيا بحد ذاته، والسبب أن هناك «عصابات» أو بلغة أقل حدة «تكتلات» من عمالة وافدة تمارس ممارسات غير تنافسية في سوق العمل، بما يحد من فرص السعوديين والسعوديات في الحصول على فرص العمل المواتية!
منذ سنوات طويلة والحديث يتوالى عن تجارة التجزئة وما يمكن أن تجلبه من فرص لتوظيف السعوديين والسعوديات، حتى أصبح الحديث مكرورا، والسبب أننا نتحدث عنه ولا نفعل الكثير للسيطرة على هذه الأسواق ليكون بوسعنا التوظيف فيها على نطاق واسع. والسيطرة هنا تعني ليس فقط «سعودتها» أو «توطينها» بل مراقبتها بصرامة أولا وقبل أي شيء. فكل يوم نسمع عن قصص فظيعة تدور في الدهاليز الخلفية لهذه الأسواق تهدف للإيقاع بالمستهلك وإيهامه والتغرير به وغبنه لتحقيق أعظم ربح باستغفاله وكأن جيبه «سبيل»! وقبل سنوات، عرض برنامج الثامنة حلقة حظيت بمشاهدة واسعة، كان موضوعها ما نأكله من أسماك، لكننا -فيما يبدو- شاهدنا الحلقة فتأثرنا أياما ثم نسينا وعدنا لشراء الأسماك دون سؤال! أي لم يحدث أي تغيير! ونشاهد تباعا تقارير ومقاطع عن المطاعم تطعمنا «لحوم كلاب» وما سواها.
قبل نحو أربع سنوات عرضت عليكم هنا «نشاطات». «نشاطات» (على وزن «نطاقات») تسعى لضبط الموارد البشرية في كل حلقات (القيمة المضافة) الواصلة بين دكان بيع التجزئة والمُوَرّد الرئيس أو المصنع؛ فكل حلقة من تلك الحلقات تولد قيمة وفرصا للربح والتكسُب الذي قد يكون مشروعا أو قائما على الغش ومخالفة النظام.
وبرنامج «نشاطات» المقترح لا يقتصر على أماكن بيع التجزئة بل يمكن تطبيقه على الأنشطة الاقتصادية كافة، وسبب تناول أمثلة من تجارة التجزئة هنا لإيضاح وشرح الفكرة. فمن يتردد على أسواق الخضار المركزية سيشعر بأن ثمة يدًا خفية تسيطر وتربط بين أصحاب البسطات (أو بعضهم)، وأن هناك ترتيبا للأسعار وتمريرا للبضائع المتقادمة، ومن يدري ما يحدث في أسواق اللحوم بأنواعها عندما يدعي «القصاب» أن هذا اللحم محلي وانه طازج؟ هذا أمر بحاجة لثلة من الأطباء المتخصصين للتأكد منه، ثم إنك لا ترى أثرا لا لختم ولا لتاريخ واضح، وكأن هذه أمور من مخلفات الماضي.
مراقبة الأسواق مهمة أساسية ارتكازية، فإما أن تقوم بها البلديات والأمانات كما ينبغي وفق أسس ومعايير عالمية، أو أن نقبل بالغش، وهو أمر لا يُقبل. أعود لأقول إن حماية المستهلك تتحقق في أفضل صورها عندما تكون وقائية مُبادرة؛ أي لا تسمح للغش أن يقع ابتداء، بحيث يجد من يريد أن يعرض أسماكا فاسدة في مطعم او محل، أن الأمر مُكلف من حيث الغرامات والعقوبات فلا يُقدم عليه. والأمر لا ينتهي عند مراقبة جودة البضائع، بل كذلك مراقبة أسعارها بآلية لا تتطلب إعادة اختراع العجلة بل بانتداب بعض مسئولي البلديات للأسواق المجاورة حيث تعلن عن أسعار الخضار واللحوم والأسماك عبر الراديو وفي الصحف السيارة، وكذلك يتطلب الأمر مراقبة للمؤامرات التي يحيكها بعض الباعة من ترتيب للأسعار لرفعها بصورة غير مبررة.
كل هذه الأمور تتطلب مراقبة وجهدا لا يفتر لجمع المعلومات بصورة دقيقة ومستمرة عن الأسواق، لكن كيف؟ هناك من الموظفين المسئولين من لا يقدر الدافع الهائل لدى بعض الباعة لتحقيق أرباح متعاظمة عبر خفض التكلفة ورفع السعر في آنٍ معا؛ بالسعي لخفض التكلفة بشراء بضائع معيبة لرخص تكلفتها، ومن جانب آخر التلاعب بالعرض لرفع سعر البيع، والممارسة السائدة في أسواق التجزئة لدينا خفض التكلفة ورفع السعر، هذه الممارسات توجع جيب المستهلك وتعيق المنافسة العادلة وتحدّ من توطين العمالة ورأس المال وتعزز التستر. ما العمل؟
لعل الحل يكمن في الحد مما تمارسه بعض تكتلات العمالة الوافدة للسيطرة على السوق ذات الصلة بنشاطها، بأن نسعود النشاط رأسيا وليس سطحيا. لنأخذ مثال سعودة محال الاتصالات، هذه خطوة جيدة، لكن ماذا عمن يعمل في المستودعات؟ وفي الورش؟ وعند تجار نصف الجملة والجملة والمستوردين؟ خذ النشاط من وصول البضائع من الميناء حتى وصولها للمشتري النهائي. خذ كل الحلقات وسعودها، حلقة حلقة. طبق هذا في الاتصالات، وتجارة الذهب، والخضار، واللحوم، ومحال الحلاقة، والسفر والسياحة، والمطاعم، والمخابز، ومحال بيع الورود، وورش الإصلاح، ومحال بيع الالكترونيات، وكل نشاط اقتصادي بكل فروعه. بالقطع لابد من وضع خطة تنفيذية ونطاق زمني.
وبوسعنا كذلك الدخول في الخدمات المهنية برمتها، بما في ذلك الخدمات المالية كالمصرفية والتأمين والنشاط العقاري. والحديث هنا ليس بسعودة تلك الأنشطة بالكامل بل بزرع السعودة ودعمها وتنميتها مع مرور الوقت.
وبالقطع فالحديث يطول والتفاصيل كثيرة ومتشعبة، مما لا يسمح الحيز بعرضه. القصد أن فرصة العمل للمواطن لم تعد تتطلب فقط أن يكون هناك شاغر، بل أن تسمح قوى السوق للمواطن بأن يأخذ تلك الفرصة أخذا حقيقيا، حتى لا تبقى سوق العمل السعودية مشوهة نتيجة أنه ليس للمواطن اليد الأعلى فيها.
نقلا عن اليوم