يشكل قرار مصر تعويم سعر صرف الجنيه تحولاً نوعياً في الذهنية التي تحكم الإدارة الاقتصادية في البلاد. فمنذ تولي العسكر الحكم في تموز (يوليو) 1952 أصبح الاقتصاد المصري اقتصاداً شمولياً محكوماً بقرارات ذات طابع سياسي لا تمت بصلة كبيرة إلى حقائق الحياة الاقتصادية. وبقي سعر الصرف محكوماً بقرارات إدارية، قد تصدر من المصرف المركزي لكنها في نهاية المطاف لا تتعارض مع تصورات السلطة السياسية الحاكمة. لذلك لم يكن مسموحاً ولزمن طويل إخراج مبالغ بالجنيه من البلاد وإدخالها إليها وأخضع المسافرين للتفتيش وسُجن بعض منهم.
ونشأت في مصر سوق سوداء يجرى تداول العملة فيها بأسعار صرف مغرية. ومنذ بداية ستينات القرن الماضي، وربما قبل ذلك، اشترى المصريون والمقيمون وغيرهم من زوار مصر الجنيه من السوق السوداء بأسعار مهاودة في مقابل العملات «الصعبة». وحتى أيام خلت كان التفاوت بين السعر الرسمي المعلن وسعر السوق غير الرسمية كبيراً وتفاوت بين 8.5 جنيه للدولار و20 جنيهاً للدولار. وهذه الأوضاع المستجدة نتجت من تراجع مداخيل مصر من السياحة وقناة السويس والصادرات النفطية وغيرها من صادرات سلعية وتراجع تحويلات العاملين في الخارج. ويأتي ذلك بعد تراجع احتياطات مصر من النقد الأجنبي من نحو 38 بليون دولار مطلع 2011 إلى أقل من 17 بليون دولار الآن.
جاء قرار تعويم سعر صرف الجنيه بعد ضغوط من صندوق النقد الدولي باعتبار الخطوة أحد عناصر الإصلاح الاقتصادي المستحق، كي تنال مصر قرضاً بقيمة 12 بليون دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة. وهذا التحول في موقف الإدارة المصرية يعكس واقعية ونضوجاً في التعامل مع حقائق الاقتصاد. فإلى جانب تراجع الإيرادات في التعاملات مع العالم الخارجي، ثمة تدهور في القدرات الإنتاجية للعديد من المؤسسات العاملة في القطاع الصناعي، ناهيك بالمشاكل التي يواجهها القطاع الزراعي منذ زمن طويل. كما ان الإدارة الحكومية مثقلة بالالتزامات المتعلقة بالدعم السلعي والتوظيف وتدني التحصيل للإيرادات الضريبية.
وخلال السنوات الثلاث الماضية وبعد إطاحة الرئيس محمد مرسي، اعتمدت الحكومة على دعم البلدان الخليجية ودول صديقة مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والصين لتمكينها من مواجهة الاستحقاقات الأساسية المتعلقة بالحفاظ على مستوى كريم لمعيشة لغالبية الشعب المصري. لكن الأوضاع ظلت صعبة لفئات واسعة من المصريين ولم تتراجع نسبة أولئك الذين يمكن تصنيفهم من ضمن الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولارين للفرد يومياً، ناهيك بتعطل عدد مهم من أفراد قوة العمل بسبب تراجع أعداد السياح أو تعطل المصانع والمنشآت التجارية وعدد كبير من المنشآت الخدمية.
وعدلت الحكومة المصرية أنظمة الدعم خلال السنوات القليلة الماضية بما رفع من تكاليف المعيشة وخفض الالتزامات الحكومية. بيد أن مسألة الإصلاح الاقتصادي في مصر ظلت تراوح بسبب تردد الإدارة الحكومية وعدم قبولها اتخاذ قرارات غير شعبية أو اتخاذها ثم التراجع عنها كما حدث في السبعينات والثمانيات. لذلك اعتمدت الحكومة على تمويل العجز بواسطة آليات الاستدانة محلياً وعالمياً بما رفع من مستويات الدين العام.
وبعد مشاركة مصر في تحرير الكويت عام 1991 من الاحتلال العراقي تم إعفاؤها من جزء كبير من الدين الخارجي، لكن منذ ذلك الحين عاد الدين إلى مستويات عالية وتقدر نسبة الدين الخارجي اليوم بـ15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بـ331 بليون دولار عام 2015. أما إجمالي الدين العام فبلغت نسبته من الناتج المحلي الإجمالي 88 في المئة في العام الماضي.
كيف يمكن لمصر مواجهة التزاماتها المحلية والخارجية من دون تنشيط القطاعات الحيوية مثل السياحة والصناعات التحويلية والزراعة والتجارة الخارجية وتعزيز مداخيل قناة السويس؟ كانت قيمة الصادرات المصرية 22.2 بليون دولار عام 2015 بتراجع 15 في المئة عن مستواها قبل سنة في حين بلغت الواردات 61.2 بليون دولار بارتفاع اثنين في المئة عن مستواها في 2014. يعني ذلك أن عجز ميزان التجارة الخارجية تنامى بـ14.7 في المئة.
إن أي قراءة لأوضاع الاقتصاد المصري تؤكد بأن سعر صرف الجنيه المصري المعلن من المصرف المركزي قبل التعويم مبالغ فيه ولا يخدم متطلبات الإصلاح وعمليات التحفيز للحياة الاقتصادية. وقوبل قرار التعويم بترحيب من رجال الأعمال ومؤسسات مالية محلية وأجنبية. وهذا التعويم لا بد من أن يحرر سعر الصرف من سطوة القائمين على السوق السوداء ويعزز قدرات مصر في تعاملاتها الخارجية، وربما يساهم في رفع قيمة الصادرات المصرية المتنوعة.
لكن هل سيؤدي هذا التعويم إلى رفع معدل التضخم في مصر ويضير الطبقات الشعبية وذات الدخول المحدودة؟ لا بد من تأثيرات كهذه في الأجل القصير، لكن التعويم يجب أن يحفز المؤسسات الوطنية على تطوير قدراتها ورفع كفاءة إنتاجيتها لمواجهة الطلب المحلي على السلع والبضائع بما يخفض من الواردات السلعية.
هذا التعويم امتحان للاقتصاد المصري ومدى قدرة الإدارة الاقتصادية على التعامل مع متطلبات الإصلاح والتصحيح والثبات عليها. يضاف إلى ذلك أن مصر يجب أن تعزز أمنها بما يؤثر إيجاباً في الحياة الاقتصادية وتحسين قدرات القطاعات الاقتصادية.
نقلا عن الحياة